الطبقة العاملة والتغيرات البنيوية

الطبقة العاملة والتغيرات البنيوية

نشر مركز الأبحاث والدراسات العمالية مقالة، للكاتب معتز حيسو، تتضمن وجهة نظر الكاتب حول تأثير الأزمة الرأسمالية على واقع وبنية الطبقة العاملة، وتنشر قاسيون – بشيء من التصرف – مقتطفات واسعة من المقالة. 

إن بحث واقع الطبقة العاملة، وما حصل فيها من تغيرات، يستدعي استعراض بعض التحولات البنيوية والعضوية للرأسمالية، وطبيعة العلاقات التي يتحدد انطلاقاً منها الاقتصاد العالمي، حيث تشهد الرأسمالية في الآونة الأخيرة تناقضاً داخلياً مفاده التعارض بين البعد الاقتصادي للعولمة، والمشاريع السياسية المستقلة.

ولعل تحوّل الرأسمالية في سياق الثورة الرقمية إلى أشكال مالية، قد عزز ذلك من مركزية الاستلاب الاقتصادي، وأدى إلى تعميق التناقض بين مركز النظام الرأسمالي والأطراف، وإلى ارتفاع معدلات الاستقطاب الاجتماعي وتبعية الدول الطرفية الرأسمالية وتعميق أزمتها.

الاحتكارات الخمسة

 

وتشير التقديرات إلى أن أقل من 20% من البشر يستحوذون على أكثر من 80% من الناتج العالمي، بينما أكثر من 80% يمتلكون أقل من 20% من الناتج العالمي. هذا في وقت تجاوز حجم الرساميل العائمة الباحثة عن التوظيف عتبة الـ 100 مليار دولار. بينما حجم التجارة العالمية فإنه يُقدر تقريبياً بثلاثة آلاف مليار دولار، مع هيمنة الشركات متعددة الجنسيات على آليات الاقتصاد العالمي وأشكال تطوره. كما وتحتكر تلك الشركات مع الدول الصناعية الكبرى، ما بات يُعرف بالاحتكارات الخمسة «الاحتكارات العاملة في قطاع التكنولوجيا، التدفقات المالية، الموارد الطبيعية للأرض، الاتصالات والإعلام، أخيراً أسلحة الدمار الشامل». 

وتحدد تلك الاحتكارات الإطار الذي يُعبّر من خلاله قانون القيمة المعولمة عن نفسه، مع ميل معدل الربح الكلي في البلدان الصناعية نحو الانخفاض. وكان لذلك دور كبير في هجرة الرساميل إلى الأطراف المندمجة، وتحديداً التي تتمتع منها بمناخات استثمارية مناسبة. 

تغير تركيب رأس المال الصناعي

 

واشتغلت الرساميل المهاجرة على توظيف أجهزة الدولة المضيفة وبناها التحتية لتحقيق أعلى الأرباح. وكان ذلك يتم في سياق تهديم البنى الاجتماعية وزيادة حدة التناقض الطبقي والاستقطاب الاجتماعي ـ 

وساهم ذلك في سياق تداخل وترابط القطاعات الصناعية في زيادة تكثيف وتعقيد تركيبها، ووصول كثير من القطاعات الصناعية في الدول الكبرى إلى درجة الإشباع، بسبب ميل الرساميل في سياقها الاحتكاري إلى الاندماج والتكتل، ما دفعها للانتقال إلى قطاعات أقل إشباعاً، أو الانتقال إلى بلدان تتوفر فيها بنى تحتية متطورة، ومستقطبة للرساميل. وتجلى ذلك في زيادة مستوى تطور وسائل الإنتاج، وتضخّم الإنتاج العالمي، وتغيّر التركيب العضوي لرأس المال الصناعي لجهة تزايد نسبة رأس المال الثابت/ الأساسي مقابل انخفاض رأس المال المتغير.

التداعيات على الطبقة العاملة

 

كان من آثار ذلك انخفاض معدل الأجور نتيجة تخفيض قسري لعدد ساعات العمل، وارتفاع معدلات البطالة، وزيادة الاستقطاب الاجتماعي. في السياق ذاته كان لافتاً أنه كلما تطورت القوى المنتجة كلما احتاج التحديث إلى كتلة نقدية أكبر، وكان ذلك إضافة إلى التطور التكنولوجي يفرض على الدوام انخفاضاً في أعداد العمال.

إن مجمل العوامل السابقة انعكست على أوضاع الطبقة العاملة، وعلى بنيتها العضوية وتركيبتها الداخلية، المتمثلة بتنظيماتها النقابية بأحد تجلياتها، وأشكال علاقتها مع الأحزاب السياسية التي تحولت في معظمها إلى الليبرالية. ولم تنحصر تلك التحولات في البلدان الصناعية، بل امتدت تداعياتها، بأشكال ومستويات أكثر تراكباً وتعقيداً واضطهاداً إلى البلدان الطرفية.

 فكانت أوضاع العمال وبنية الدولة في البلدان الطرفية تشهد تحولات عميقة عنوانها الأساس هيمنة رأس المال، وأشكال سياسية أحادية تضيف إلى التفاوت والاستقطاب الاجتماعي والاستلاب، قمعاً سياسياً. وكان المدخل إلى ذلك تراجع دور الدولة الاجتماعي والتنموي، وتحولها إلى أشكال نيو ليبرالية تقع على درجة كبيرة من التخلف والتبعية والارتهان. هذا إضافة إلى تخلف القطاعات الإنتاجية، وانخفاض معدلات الإنتاج، وارتفاع معدلات الكلفة الإنتاجية، وتخلف البنى التحتية، وتراجع دور القوانين والأنظمة أمام انتشار ظواهر الفساد والنهب وتهريب الأموال والمحاصصة وتوظيف المال السياسي خدمة للمصالح الشخصية. 

وكان ذلك يتم في سياق تغوّل السلطة، وابتلاعها لمؤسسات الدولة والمجتمع، وانخفاض معدل توظيف الرأسمال الصناعي، أمام ارتفاع معدل التجارة الحرة وتسارع انتشار ظاهرة التمييل وتضخم التوظيف العقاري وهروب الرساميل للخارج.

الاستبداد والشمولية

 

إضافة إلى ما سبق، فإن الشرائح العمالية، في بلداننا عموماً، تعاني من أمراض الاستبداد والشمولية والقمع وتغييب الحريات السياسية والمدنية. وكان ذلك ينبئ على الدوام بتزايد القمع السياسي والطبقي بشكل طردي مع تعمق الأزمة الاقتصادية والسياسية رأسياً وأفقياً، وساهم ذلك في زيادة معدلات البطالة وارتفاع معدلات الفقر وانخفاض مستوى الأجور إلى درجة لم تعد قيمتها الحقيقية تغطِّي الحد الأدنى للنفقات الأساسية. 

في السياق، كانت السلطات السائدة تشتغل على احتواء النقابات وإقصائها عن مهماتها الأساسية السياسية والاقتصادية، وتهميش وتقييد الأحزاب السياسية والمؤسسات الأخرى. وتتضح تلك الميول في معظم البلدان الطرفية التي تتفاقم فيها أزمات اقتصادية بنيوية، نتيجة ارتباطها بحركة الاقتصاد الرأسمالي المركزي الذي يعاني بدوره من أزمة بنيوية. 

ومع ذلك لم تنجح الأحزاب السياسية اليسارية في قيادة المتضررين من تناقضات النظام الرأسمالي المعولم، والتأسيس إلى تحالفات عمَّالية تناهض الرأسمالية المعولمة. في مقابل ذلك، فإن الفئات العمالية كانت نتيجة تداخل وتشابك عوامل أزمة الدول الطرفية مع أزمة بلدان المركز، تزداد تفتتاً وتهميشاً وانقساماً أفقياً. 

تغييب الجوهر الطبقي

وازدادت تلك التحولات تفاقماً وابتعاداً عن جذرها السياسي والاقتصادي، في ظل الصراعات التي تجتاح الدول العربية. وكان لارتفاع وتيرة العنف والقمع والتدخلات العسكرية الإقليمية والدولية المباشرة وغير المباشرة، دور كبير في اتساع تلك التحولات.

ويفاقم من حدة الاستغلال الاجتماعي، ومن شدة تعقيد لوحة الصراعات على المستوى العالمي، التناقض والترابط والتشابك التي يتسم بها المشهد العالمي. وفي سياق ذلك يركِّز صنّاع القرار في إبعاد التناقض الاجتماعي عن جوهره الطبقي.

وما زالت الرأسمالية تسعى إلى إعادة إنتاج ذاتها المأزومة، على ضوء الأزمة البنيوية للنظام الرأسمالي العالمي ككل، وذلك في مسعى منها لعدم الوصول إلى أزمتها العامة الماضية باتجاهها، عبر المزيد من محاولات تشتيت الشرائح العمالية، وإبعادها عن الجذر السياسي الطبقي للتناقض الأساسي بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج، مستمرة في عسكرة الاقتصاد وشفط فضل القيمة وثروات البلدان الطرفية، مستخدمة بذلك الثورة الرقمية، وثورة الاتصالات، والتكنولوجيا والقوة العسكرية، مع سعيها الحثيث إلى تسليع وتغريب الإنسان وتشييئه، ويتجلى ذلك أكثر ما يتجلى في البلدان الطرفية.

 

آخر تعديل على الأحد, 24 نيسان/أبريل 2016 12:32