هل تتذكرون الـ22 دقيقة؟!

هل تتذكرون الـ22 دقيقة؟!

في عام 2014، صدَم رئيس الوزراء في الحكومة السورية، الرأي العام بحديث مستفز، مفاده أن وسطي عدد ساعات عمل الموظف السوري في القطاع العام لا يتجاوز 22 دقيقة، وفي حينه لاقى التصريح امتعاضاً كبيراً ولا سيما في الأوساط العمالية والنقابية التي استهجنت تلك التصريحات، وردّت بشكل جازم أن هذه المعلومات غير دقيقة.

لم تسع الحكومة لاحقاً لفتح نقاش جدي حول مشكلة (تدني الإنتاجية)، التي تدعي عدم مسؤوليتها عنها، وتحملها للقطاع العام وموظفيه، وكأنها مفصولة عنه! ورغم أن ما صُرّح به في وقتها لا يعكس واقع الحال البتة في القطاع العام بقطاعاته المختلفة الإدارية والإنتاجية، إلا أن وجود شيء من هذه المشكلة في مستوى ما وفي قطاعات محددة، هو ما تُغفل الحكومة معالجته، كونه يعود في جزء أساسي منه للسياسات ذاتها التي تنفذها الحكومة، وهو ما سنبينه في هذه المقالة، طبعاً دون إهمال الجوانب الأخرى المتعلقة برفع الإنتاجية، والتي لا مجال لبحثها في هذا المقالة.
بيروقراطية على حساب الإنتاج!
لقد أظهر مشروع موازنة عام 2016 مساعي الحكومة لتوظيف 46 ألف عاملاً تقريباً في القطاع العام (الإداري)، وفي السنوات السابقة، تحدثت مشاريع الموازنات عن أرقام مماثلة سنبينها في الجدول (1):
وفيما لو جمعنا هذه الزيادات السنوية في عدد فرص العمل في القطاع الإداري سنجد أن الحكومة عملت على توظيف (181) ألف عامل تقريباً خلال 4 سنوات في الأزمة، حصرتها في قطاع واحد فقط هو القطاع الإداري، أي بعيداً عن القطاعات الإنتاجية الحقيقية.
إن هؤلاء العمال المضافين إلى قطاع غير إنتاجي يفوقون كامل عدد العمال الموجودين في القطاع العام الصناعي البالغين (161) ألف عامل تقريباً في عام 2010 (183 ألف وفق إحصاءات أخرى)، وهم يعادلون 12 ضعف عمال قطاع الزراعة العام، وحوالي 5 أضعاف العاملين في قطاع البناء والتشييد العام. وفي السياق ذاته فإن هؤلاء يمثلون زيادة بمعدل 18% عن إجمالي موظفي القطاع الخدمي الحكومي في 2010، أي بمعدل زيادة (4,5%) سنوياً، في ظل الأزمة التي شهدت تراجعاً في الناتج في كل المجالات! إن هذا التشوه في مجال التوظيف يعكس دور السياسات الحكومية في تشكيل (جيش من الموظفين البيروقراطيين) على حساب العمال في خطوط الإنتاج، وهو ما يخلق الظروف الموضوعية لتدني الإنتاجية.
إنتاجية القطاع الصناعي
تعادل 170% من الخدمي!
كان من الأجدى أن تعمل الحكومة على مزيد من (خلق) فرص العمل في القطاعات الإنتاجية، بدل (التوظيف) في القطاع الإداري، وهو أمر ممكنٌ وضروري، فرغم تراجع الإنتاج في القطاعات كافة بفعل الأزمة، إلا أن القطاعات الإنتاجية هي الأكثر قدرة على امتصاص مزيد من العمال، فهي الأعلى إنتاجية، ناهيك عن كون أي زيادة في مستوى الاستثمار في تلك القطاعات سيخلق فرصاً جديدة كلياً، وهو ما كنا ومازلنا بحاجته لإنعاش النمو الاقتصادي في ظل الحصار والأوضاع الأمنية، ولتشغيل المنخرطين الجدد في سوق العمل أو أولئك المتوقفين عن العمل في القطاعات الأخرى بفعل الوضع الأمني.
وبالتالي كانت إمكانية توفير فرص عمل دون تشكيل مزيد من الترهل وتدنٍ في الإنتاجية أعلى في القطاعات الإنتاجية مما عليه الحال في القطاعات الإدارية، ولتوضيح ذلك يكفي أن نذكر أن (إنتاجية) الموظف في القطاع الإداري، وسنأخذ قطاع الخدمات الحكومية نموذجاً له، تبلغ: (202) ألف ليرة سورية سنوياً. بينما تعادل إنتاجية العامل في القطاع العام الصناعي، ومن دون احتساب قطاع النفط، 170% منها، أي بناتج يقدر بـ (352) ألف ليرة سنوياً. وفيما لو أضفنا إنتاجية العمال في القطاع النفطي الذي يُقال إنه متوقف بغالبيته العظمى، فإن إنتاجية القطاع العام الصناعي ستصل إلى (3,4) مليون ليرة، أي ما يعادل 17 ضعفاً تقريباً من “إنتاجية” الموظف في قطاع الخدمات الحكومية.
طبعاً قد يرد البعض أن هذه المؤشرات تعود لما قبل الأزمة، ولكنها كانت ومازالت مؤشرات كافية للبناء عليها ولوضع سياسات توظيف على أساس القطاعات ذات الإنتاجية الأعلى، إلا أن السياسات التي لا ترى في الإنتاج الوطني وقطاعه العام رأس حربة اقتصادها، فإنها ستتعامى عن هذه الوقائع، مثل ما كانت السياسات الليبرالية المنفذة قبل الأزمة تبتعد عن مواطن الإنتاجية الأعلى في القطاعات الصناعية، فزادت التوظيف في المجال الإداري على حساب الإنتاجي. ورغم أن مطالبات النقابات في قطاع الصناعة تحدثت مرات عديدة في تقاريرها عن مشكلة نقص الاستثمار ونقص اليد العاملة في العديد من المراكز الإنتاجية في ظل الأزمة (راجع تقارير النقابات في القطاع العام الصناعي في عام 2014)، إلا أن الحكومة ضربت هذه المطالبات عرض الحائط، وهو ما يتوضح فعلاً في وجهات النفقات الاستثمارية للحكومة خلال الأزمة. 
انخفاض الاستثمار عامل حاسم
لقد كانت نسب الإنفاق الاستثماري في موازنات الحكومة في ظل الأزمة وحتى ما قبلها، هي العوامل المؤسسة لهذه الظاهرة، ولا أدل على ذلك إلا نسب الاستثمار الحكومي المتراجعة والتي سنبيّنها في الجدول رقم (2):
إن إنخفاض قيم الاستثمار الفعلية واضح في الموازنة فيما لو احتسبناها وفق سعر الصرف، فمن المعلوم أن كل نفقات الحكومة تتأثر بتقلبات سعر الصرف، فمعظم مداخيل الحكومة ونفقاتها تأخذ الطابع النقدي والمالي المتأثر حكماً بتدهور سعر الصرف، وهو ما انعكس على واقع الاستثمار في القطاعات الإنتاجية الحقيقية، وبالتالي على قدرة الحكومة على خلق فرص عمل جديدة في القطاع العام. كما أن نسبة هذا الاستثمار تقريباً شبه ثابتة في الموازنة على مدار الأزمة، وهي لم تتجاوز ربع نفقات الحكومة إلا بقليل.

 

باختصار:
باختصار شديد، لقد راكمت الحكومة مزيداً من الموظفين في القطاع الإداري الذي انحسر دوره بشكل كبير بسبب الوضع الأمني، بينما قلصت التوظيف في القطاعات الإنتاجية التي كان ينبغي زيادة دورها عبر مزيد من الاستثمار فيها. فسياسات الحكومة لا تميز بين (خلق فرص عمل جديدة)، والتي تعني مزيداً من الاستثمار والإنتاج، وبين (توظيف موظفين جدد) في قطاعات متخمة أصلاً، وهؤلاء الذين نحتاجهم طاقاتهم في قطاعات أخرى يتحولون تباعاً إلى البطالة المقنعة.
وأياً كانت دوافع تلك الإجراءات، فإن استمرار الحكومة بهذه الزيادات في القطاع الإداري حصراً، دون خلق فرص عمل في القطاع الإنتاجي، شكل وسيشكل عبئاً وترهلاً إدارياً بالمحصلة على القطاع العام بقطاعاته المختلفة، وأمام تلك الوقائع فلن تسعى الحكومة لبحث «مشكلة» تدني الإنتاجية في مختلف القطاعات، وستكتفي بالإشارة إلى تدني الإنتاجية بتهم عابرة، وذلك كي لا تقع في مطب إدانة سياساتها.

هوامش:


* تم احتساب سعر الصرف في الأعوام (2012-2013-2014) وفقاً لوسطي سعر الصرف السنوي في المصرف المركزي، لأن سعر الصرف غير موضح في بيانات مشروع الموازنة في تلك السنوات، وهذا لا يغير الكثير في تقييم واقع قيم الاستثمار العام الفعلية، أما باقي السنوات (2015-2016)، فهو محسوب وفق سعر الصرف المعتمد في مشروع موازنات تلك الأعوام.

 

آخر تعديل على الأحد, 22 تشرين2/نوفمبر 2015 14:37