في رؤية النقابات الاقتصادية-الاجتماعية (2/2)

في رؤية النقابات الاقتصادية-الاجتماعية (2/2)

لقد بيّنا في العدد الماضي في المعالجة الأولى لرؤية الاتحاد العام لنقابات العمال غياب أهم التحولات الاقتصادية التي يبنغي أن تصاغ رؤية النقابات على أساسها، وهي (التمركز الشديد للثروة، ما أدى إلى تفاوت كبير في توزيعها، وهيمنة رأس المال الطفيلي على الاقتصاد السوري).

وبيّنا سابقاً أن المطلوب هو أخذ هذين المتغيرين الخطيرَين المتعمّقين في الأزمة، كمحدد لصياغة الرؤية الاقتصادية لمستقبل البلاد التي ينبغي أن تحقق مصلحة غالبية الشعب، أي مصحلة عماله بالدرجة الأولى، الذين هم منتجو الثروة الفعليين، والذين سحقهم تمركز الثروة وانهارت مكتسابتهم بتصاعد دور رأس المال الطفيلي.


نقطة منهجية

إن نقطة انطلاق برنامج الحل الاستراتيجي يجب أن تثبت حقيقة - (تلاقي مصلحة عموم الشغيلة كضرورة لتحقيق مصلحة الدولة السورية) وتناقضها مع مصلحة رأس المال الطفيلي. وفيما لو حُسمت هذه البديهية التي صارت أمراً يفقع العين في الأزمة بعد هروب الرساميل التي كدسوها ما قبل الأزمة، وتحقيق المضاربين وتجار الأزمات أرباحاً بالمليارات من الأزمة، بمقابل صمود العمال في منشآتهم رغم تردي أجورهم وصبرهم على سياسات الحكومة مراعاةً لظروف الأزمة. إن كل ذلك سيفضي لضبط رؤية النقابات لاستهداف (أعمق عدالة في توزيع للثروة مع استمرار تلبية الحاجيات المادية المتنامية) لعموم الشعب السوري وعلى رأسه شريحته المنتجة أي عماله.
وللتاريخ ينبغي القول أن جزءاً هاماً مما جاء في الرؤية توخى الوصول لهذا الهدف، لكن بعض طروحاتها لم تستطع التعمق أكثر في مقتضيات تحقيق الهدف، خاصة وأن الرؤية مصاغة على مبدأ (قول كل شيء) لكنها بذلك (أغفلت أشياء حاسمة). فما الذي أغفلته هذه الرؤية؟


النمو من دون عدالة!..

لقد اعتنت الرؤية بجانب البحث عن مصادر النمو في قطاعات الإنتاج الرئيسية، وذلك لتلبية الاحتياجات، لكنها تعاملت إلى حد بعيد مع الرؤى والإجراءات المتعلقة بجانب العدالة في توزيع الثروة، وكأنها قضية ملحقة بعملية نمو الإنتاج، بينما يشير الواقع أنها باتت شرطاً له.
مع ذلك سنتبين بعض الإشكالات في الرؤى المتعلقة بجانب نمو الإنتاج الذي أفردت له الرؤية الشأن الأكبر، فتحدثت عن (التأكيد على دور الدولة الاقتصادي الإنمائي والتنظيمي والرعائي والرقابي) ولا ندري هنا لماذا غاب الحديث بشكل حاسم عن دور الدولة في الإنتاج والاستثمار؟! هل الصيغة المستخدمة تضمن ذلك أم أنها مصممّة لتكون حمّالة أوجه؟! أم أن الرؤية ترى إمكانية تحقيق نمو دون دور مباشر وقيادي للدولة في الإنتاج؟! طبعاً لا جدل كثيراً حول ضرورة دور ما للدولة، ولكن السؤال ماهو حجم هذا الدور وطبيعته، هل هو قيادي ورئيسي، أم مشارك، أم توجيهي فحسب؟!


ما العلاقة بين القطاع الخاص والعام؟

عادت الرؤية للتأكيد على (مضاعفة الاستثمارات الحكومية في القطاع الزراعي) و(وضع استراتيجية وطنية لإعاد بناء المنشآت الصناعية العامة والخاصة) في الصناعات التحويلية، مؤكدة بذلك على دور الدولة في إنتاج الخيرات المادية مباشرة لكن دون توضيح حجم هذا الدور اللاحق فهل هو أساسي أم ثانوي؟ وماذا عن قانون التشاركية في هذا السياق الذي يحدد طبيعة العلاقة بين القطاع العام والخاص في مجال الاستثمار؟ صحيح أن الرؤية دعت إلى إعادة النظر بقانون التشاركية وذلك في الفقرة المتعلقة بإعادة الإعمار لكنها لم تحدد اتجاه تغيير هذا القانون!.
لقد انعكس التحديد غير الواضح لتلك العلاقة أيضاً في قضية (جذب الاستثمار) ليس من ناحية العلاقة بين القطاع العام والخاص فحسب، بل لإغفالها تحديد مهمة (القطاع الخاص الوطني) فرأت (ضرورة إعادة النظر بقوانين وتشريعات الاستثمار المعمول بها حالياً، لتوحيدها في تشريع واحد تشرف على تنفيذه الحكومة بالتنسيق مع القطاع الخاص الوطني..). ألا ينبغي تحديد طبيعة ودور القطاع الخاص الضرورية بشكل جدي لتحقيق أهداف أية خطة تنموية؟!.
لقد تفادت الرؤية إشكال عدم تحديد طبيعة الاستثمار ووظيفته، عندما تعاطت مع الاستثمار الأجنبي لاحقاً، فأكدت على ضرورة (تقييد الاستثمارات الأجنبية وحصرها بما تحتاجه البلاد، وتوجيهها لخدمة الاقتصاد الوطني) وهذا جيد، لكن هذا المحدد يبقى فضفاضاً ويحتاج إلى تعميق، رغم محاولته لوضع محدد لمخاطر الاستثمار الأجنبي وكيفية توجيهها، وهذا يحسب لها.


أين دور الدولة في التجارة؟!

ومن نتائج الالتباس في دور الدولة أيضاً، هو الموقف من التجارة بشقيها الداخلية والخارجية، حيث لم توضح الرؤية ولم تتحدث مطلقاً عن أي دور للدولة في التجارة الخارجية، وتحديداً في مجال الاستيراد، بل على العكس تحدثت عن دور للقطاع الخاص في الصادرات. وفي التجارة الدخلية تحدثت عن (توسع في تجارة التجزئة الحكومية، ولجم للاحتكار وضط للأسواق بإلزامه بالفواتير) وكأن هذه الآليات التي يستخدم معظمها حالياً نجحت يوماً في لجم ارتفاع الأسعار. إن معالجة الرؤية للتجارة الداخلية لا تخرج قيد أنملة عن عقلية اقتصاد السوق المتبعة حالياً، أما بالنسبة للتجارة الخارجية، فرغم الحديث عن (ترشيد الاستيراد وحماية الصناعة الوطنية....وتفعيل التجارة مع الدول الصديقة)، فهي تغفل دور الدولة المباشر وتطلق العنان لرأس المال التجاري دون ضوابط هامة.


تكثيف للمشكلة!

تتكثف إشكالية الرؤية بشكل واضح في الموقف من السياسة النقدية للمصرف المركزي، والسياسة المالية للحكومة، وهما أدوات التحكم الرئيسية للدولة في الاقتصاد إلى جانب القطاع العام، ونجد أن الرؤية لم تلحظ إطلاقاً أهم إشكالات السياسة النقدية قبل الأزمة، وأثنائها، والتي ستستمر إلى ما بعدها فيما لو ظلت الأطراف المعنية تسمح بـ( تحرير ميزان المدفوعات) والذي سمح عملياً بزيادة المستوردات على حساب الإنتاج الوطني، كما سمح بدخول أموال الخليج للمضاربة وإخراج أرباحها دون أي وازع، وسمح بالمتجارة بالدولار، وسمح للأموال السورية وغيرها بالهروب خارج البلاد على مرأى وأعين الجميع وهي التي تحصى بمئات المليارات والتي احتجناها في ظروف الأزمة فلم نجدها، وسنحتاجها بكل تأكيد في المراحل اللاحقة.
أما بالنسبة للسياسة المالية المتعلقة بالبحث عن إيرادات مالية للدولة، فجاء الحديث عن (إيجاد مزيد من الموراد المالية لخزينة الدولة) كلاماً مموهاً، لا بل خطيراً، فمن أين ينبغي أن تزيد الدولة مورادها؟ عبر رفع أسعار خدماتها، أم عبر فوائضها من القطاع العام، أم عبر الضرائب؟ وفيما لو كانت الضرائب هي الجواب، فعن أية ضرائب نتحدث؟ على الثروة؟ أم على استهلاك صغار الكسبة ودخولهم، أم من كبار رؤوس الأموال؟!! وهو ما يعني أن الرؤية الاقتصادية أغفلت جانباً أساسياً، وهو كيفية تمويل الدولة لاستعادة النمو الاقتصادي بإمكاناتها الذاتية، ناهيك عن غياب الحديث عن ضرورة حسم التعامل مع الفساد الكبير، والتعويضات من الدول المعتدية على أراضينا، كموارد اقتصادية ينبغي زجها في عملية إعادة الإعمار...

خطوة ناقصة لكن ضرورية!

تحدثت الرؤية عن (إيصال الدعم لمستحقيه) كجانب اجتماعي وهي صياغة مكرورة لحكومات سابقة، بيما كان ينبغي الحديث عن تصحيح العلاقة بين الأرباح والأجور في الناتج القومي لحسم قضية تحقق الدور الاجتماعي من حيث المبدأ. كما تحدثت عن مكافحة الفساد بصياغات مكررة، وقد لا يضيرها التكرار، إلا أنه كلام عام غير محدد، كما أن الرؤية لم تحسم المدى الزمني للسعي لتطبيقها، فهل هذه المهمات مفتوحة الأمد؟ ومتى سيكون لزاماً علينا البدء بها؟ لن نستفيض بشرح مثالب كل ذلك هنا فللحديث بقية.
لكن ما ينبغي التأكيد عليه هو أن تركيز الرؤية على جوانب النمو أكثر من جانب العدالة الاجتماعية، وعدم الحسم في معظم مفاصل الرؤية بدور قيادي مباشر للدولة يضعنا أمام صياغة مكررة لـ (اقتصاد السوق) بقليل من الرتوش)، وهو ما يعني التسليم لواقع هيمنة رأس المال الطفيلي وتمركز الثروة وتدهور وضع العمال وغالبية الشعب بالضرورة.
رغم كل ذلك، إن هذه الخطوة التي قام بها الاتحاد تشكل نقطة فارقة في تثبيت انفصال العلاقة بين الحكومة والنقابات وتغيير شعار (الحكومة والنقابات فريق عمل واحد) وهذا مدخل لتحقيق النقابات لدورها الوظيفي كمدافع عن مصلحة العمال والشعب، رغم قصوره عن تحولها لمهمات عمل نضالية مستمرة.