المتقاعدون.. أَمَا من منصف «إنساني»؟
ثمة مشهد يتكرر في كل يومٍ عشرات المرات مع أشخاص، يفترض أنهم أدوا كل ما يمكن تأديته، ووصلوا إلى عمر بات فيه احترامهم ومساعدتهم أمراً بديهياً تفرضه الإنسانية، وتنص عليه كل القوانين الوضعية والسماوية، خصوصاً بعد أن قدموا كل ما لديهم لخدمة هذا البلد عبر ثلاثين أو أربعين عاماً قضوها في القطاع العام
لكن للأسف ما يحدث مع الموظفين المتقاعدين عند مراجعتهم للدوائر الحكومية التي تختص بمتابعة أمورهم بعد أن أحيلوا على المعاش، هو عكس ذلك تماماً، حيث أن المراجع (المتقاعد) يصطدم بسوء المعاملة من جانب الموظفين، وعدم احترامهم لسنه في كل مرة يضطر فيها لإجراء أية معاملة تختص براتبه التقاعدي أو لأي شأن آخر.
هذا إضافة إلى التعقيدات والصعوبات التي يصادفها المراجع العادي جراء الروتين الخانق الذي يسيطر على آلية إجراء المعاملات عموماً.
فحتى الآن، على المراجع (المتقاعد) الذي بلغ من العمر ما يجعله عاجزاً عن السير أحياناً، أن ينتقل بين عدد لا متناه من المكاتب، إضافة إلى صعود عدة طوابق حتى يستكمل إجراءات المعاملة التي قد لا تنتهي طوال عدة أيام بسبب استهتار معظم الموظفين، وعدم شعورهم بالمسؤولية وتقاعسهم عن أداء واجباتهم الوظيفية التي تفرضها القوانين واللوائح الوظيفية، والتي باتت تخضع لأهواء هؤلاء الموظفين وحالتهم النفسية، مما يضطر المراجع إلى تحمل سوء المعاملة وتقبيل الأيدي حتى يطّلع الموظف على معاملته..
هذا ما حدث مع أحد مراجعي (مديرية المتقاعدين العسكريين في ريف دمشق).. حيث أن هذا المراجع قدم معاملته للموظف المسؤول عنها، لكن الموظف ودون أن يطلع على محتوى المعاملة قال له: معاملتك ليست عندي. وبعد رجاء المراجع المتعب الذي يبلغ من العمر نحو خمسة وسبعين عاماً تكرم الموظف ونظر في المعاملة، ثم قال: على ما يبدو معاملتك عندي، لكن عليك أن تراجعنا في الغد.. مع العلم أن هذه المعاملة لا تحتاج منه سوى لتوقيع لا يستغرق أكثر من ثانيتين.
وما يزيد الطين بلة، أن هذه المعاملة ستدور على أكثر من مكتب، وفي كل واحد منها سيجد موظفاً من الطراز نفسه، لكن بوجه آخر، ومستوى وظيفي آخر أيضاً، دون أن يجد المراجع المتعب أي احترام لعمره وإنسانيته وتعبه المستمر..
ويقول مراجع آخر بأن أحد الموظفين قال له «معاملتك قد خرجت من عندي.. اذهب إلى الموظفة (س) لتستكمل معاملتك، دون ذكر في أي طابق أو مكتب توجد فيه هذه الموظفة، وكأن هذا المراجع الذي يعجز عن السير على أرض مستوية عشر خطوات صديق (س) ويعرفها منذ زمن طويل!! وبعد أن يتكبد عناء الصعود على الأدراج إلى الطابق الثالث الذي استغرق منه وقتاً ليس بقليل نظراً لعجزه، يفاجأ بأن (س) في إجازة، ولا يوجد من ينوب عنها، مما سيضطره للعودة في يوم آخر، وتحمل المشقة نفسها ليكمل صراعه مع الروتين الخانق الذي يسيطر على معظم الدوائر الحكومية في بلدنا، والذي ما يزال يتفاقم ويهيمن بجهود هؤلاء الموظفين المستهترين وقد ماتت ضمائرهم، ونسوا أنهم اللاحقون بعد عدة أعوام عندما يحين موعد تقاعدهم عن العمل..
علماً أن مديرية المتقاعدين العسكريين في ريف دمشق يشرف عليها مدير يمتلك من الرحمة والإنسانية ما لو وجدت عند جميع موظفيه لكان الأمر على خير ما يرام، وذلك بشهادة أحد المراجعين الذي أجبرته إحدى الموظفات إلى إحضار أبيه العاجز من السيارة ليصعد إلى مكتبها في الطابق الثالث، علماً بأن المراجع أخبرها بحالة أبيه وعجزه عن صعود الدرج، وفي الوقت الذي كان الأب والابن جالسين على الدرج ليرتاح الأب، كان المدير يهم بالنزول على الدرج ليصادف هذا المراجع، فيسأله عن سبب جلوسه على الدرج. وعندما شرح المراجع حالته وما حدث له، لم يرض المدير بهذا الأمر، وأجبر الموظفة على النزول من مكتبها لخدمة هذا المراجع واستكمال أوراقه.
لكن المؤسف في الأمر أن مثل هذا المدير شخصية نادرة في دوائرنا الحكومية، فهذا المراجع قد ساعده حظه بهذا المدير الرحيم، لكن ماذا يفعل باقي المراجعين الذين لم يصادفوا مديراً متواضعاً لينصفهم؟؟
والأمر لا يقتصر على موظفي هذه المديرية، بل يتعداه إلى معظم المديريات الحكومية في بلدنا، التي تخضع لسيطرة الروتين الذي يعيق كل محاولة للتطوير والتقدم والخلاص من البيروقراطية والروتين.
أما آن الأوان لنلحق بركب الدول المتقدمة ونضع القوانين التي تحد من تسلط الروتين وتعقيداته، خصوصاً أن كل المحاولات الجارية في الآونة الأخيرة في هذا الإطار كانت شكلية و«رفع عتب»؟.