شوارع بغداد تحتضن عيد العمال الأحرار
عبرت نسمة عذبة الى ذاكرة المثقف الذي انتمي في فكره أو ما زال ينتمي إلى اليسار، في عيد الأول من أيار (عيد العمال الأحرار)، كما جاء في أحد شعارات المسيرة التي طافت شوارع بغداد في هذه المناسبة، منطلقة من ساحة الفردوس باتجاه ساحة الأندلس. إنها الذكرى التي أصبحت عنواناً جامعاً لليسار، لا فرق في ذلك انتماء المشاركين في هذه الاحتفالية إلى تنظيم أو نقابة، أو عدم انتمائهم لأي من هذه الأطر. لقد سرني كثيراً أن أرى بين المشاركين شباباً في ربيع العمر من الجنسين كانت مشاركاتهم قبل بضع سنوات نادرة، وغير محسوسة
ذكرت حينها أن التغيرات النوعية الحاصلة في تركيبة الطبقة العاملة، والتي مضت بتسارع كبير منذ الربع الأخير من القرن العشرين تفرض نفسها، ليس فقط على الدراسات الجادة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية، بل وعلى برامج وأساليب نضال الأحزاب العمالية والاشتراكية، ومنظمات المجتمع ألمدني، فالتحولات الحاصلة في نمط الإنتاج الاجتماعي، وتسارع تطوره التقني انعكست بصورة مباشرة على التركيبة الطبقية للمجتمعات في مناسيبها الكمية والنوعية، وهذا بدوره يستدعي إعادة دراسة، وتوصيف للطبقات الطليعية، وتحالفاتها التاريخية التي يستند اليها التغيير الثوري نحو مجتمع العدالة الاجتماعية.
نثرت الثورة العلمية والتقنية بذور التغيير في كل مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية، وأثرت في نمط الإنتاج المعاصر في جميع حقوله، بحيث أصبح يعتمد على شريحة واسعة من شغيلة العمل الذهني أي على العمال الفنيين المتخصصين كالمهندسين، والإداريين والمحاسبين، والمخططين الاقتصاديين ورجال العلم، وغيرهم من العاملين المؤهلين لإدارة عمليات إنتاج متطورة ومعقدة تقنياً.
كما أن قطاعات واسعة من العمال اليدويين، ونتيجة لإعادة التأهيل أصبحت تساهم في عمليات الإنتاج الحديثة ليس فقط بجهدها اليدوي بل وبجهدها الذهني، وخبرتها المستحدثة والمستوعبة لطبيعة عمل آلات الإنتاج المتطورة، وقد أصبح هذا الميل لجهة زيادة نسبة شغيلة العمل الذهني في عمليات الإنتاج صفة ملازمة للتطور التقني المتواصل لآلات الإنتاج وأدواته، ورافق ذلك انخفاض محسوس في نسبة شغيلة العمل اليدوي في حقول الإنتاج المختلفة مما جعل عدداً كبيراً من الباحثين الاجتماعيين في الدول الرأسمالية، والدول الاشتراكية السابقة يكتبون عن الاضمحلال المطرد لثقل ودور البروليتاريا في المجتمعات الحديثة منطلقين من فهم لا علاقة له بالمضمون الاجتماعي - الاقتصادي الماركسي لمصطلح «البروليتاريا».
لقد وصف ماركس وأنجلز في بيانهما الشيوعي طبقة البروليتاريا على أنها طبقة الشغيلة المعاصرة التي «تعيش على ما تتلقاه من أجور مقابل بيعها لقوة عملها»، وفي إشارتهما إلى شغيلة العمل الذهني، نص (البيان الشيوعي) على أن البرجوازية «قد جعلت من الأطباء والمحامين والشعراء، ورجال العلم وغيرهم عمالاً مأجورين»، أي أنهم وفقاً لتوصيف البيان في الاقتباس السابق، ينتمون إلى البروليتاريا، وبصورة أدق فإنهم ذلك الجزء من البروليتاريا الذي يساهم في عملية الإنتاج الاجتماعي بقدراته الذهنية مقابل أجر يحدده مالك مؤسسات الإنتاج ووسائلها.
وقد جاء تعبير بروليتاريا العمل الذهني بصورة أكثر تحديداً في تحية وجهها أنجلز لمؤتمر الطلبة الاشتراكيين جاء فيها «يجب إدراك حقيقة أن جزءاً كبيراً منكم سينخرط في المستقبل في صفوف بروليتاريا العمل الذهني، التي تصطف بدورها مع شغيلة العمل اليدوي في سبيل لعب دور فعال في التحركات الثورية».
إن هذا التوصيف الماركسي لطبقة البروليتاريا يسقط تماماً أسس تلك الأفكار القائلة بالاضمحلال التاريخي للبروليتاريا، والتي بنيت أساساً على تصور خاطئ يرى في البروليتاريا، شغيلة العمل اليدوي حصراً، وحتى في حالة تجاوز النهج الذي نعتمده في تمييزنا للطبقة الاجتماعية وفقاً لعلاقتها بوسائل الإنتاج وطريقة حصولها على دخلها، فإن معظم البيانات الإحصائية لثقل ودور البروليتاريا في الإنتاج الاجتماعي على اختلاف معاييرها تشهد على أنها الأهم والأكبر في جميع المجتمعات الرأسمالية.
مما تقدم نستنتج أن التطور النوعي في وسائل الإنتاج فرض تغيراً نوعياً في تركيبة قوى الإنتاج، ولاشك في أن هذا الأخير سيكون القوه المحركة الرئيسية لديمومة، وتواصل التطور التقني والعلمي لوسائل الإنتاج في شتى ميادينه ومختلف حقوله في إطار المنظومة الاقتصادية – الاجتماعية في الدول الرأسمالية المتطورة.
وختاماً لابد من الإشارة إلى أن التطور النوعي في تركيبة الطبقة العاملة، والتحامها بشرائح واسعة من الانتليجينسيا تجعلها قادرة دون الحاجة لتدخل من خارجها، على استيعاب وإنتاج فكر التغيير صوب مجتمع العدالة والرفاه المادي والروحي، والسعي لتحقيق التغيير المنشود بانتمائها أو دعمها لأحزاب اشتراكية قوية وناضجة، تستوحي برامجها من الواقع الحي المعاش مستندة إلى إرث نظري راق وتجارب غنية، ونهج علمي أثراه ماركس في نظريته الاجتماعية السياسية عن الثورة الدائمة، والتي تناولت أفكارها الرئيسية في مقالات سابقة.
ومن هنا فإن الهرب إلى الأمام والغور في برامج مستقبلية قد تتحقق بعد أجيال عديدة، رياضة فكرية ممتعة، ولكنها غير مجدية في حسابات التغيير السياسي الاجتماعي الذي يجب أن يستند على برامج تعكس مهام المرحلة التاريخية الراهنة بكل ملابساتها، والتعامل الجاد مع مشاكل المواطن الحالية، وليست الآتية من بلد غارق في الفوضى.
أما الهدف البعيد الذي يسعى إليه الاشتراكيون مهما اختلفت مسالكهم وتنوعت مناهجهم، فهو بلوغ نظام لعلاقات الإنتاج تتحقق فيه أعلى مستويات الرفاه الروحي والمادي للمجتمع بأسره. فصدون السعي لتحرير المجتمع برمته من عبودية نظام الاستغلال الرأسمالي يصبح شعار تحرير البروليتاريا محض هراء.