«نداء الاتحاد العام لنقابات العمال (إلى عمال سورية)».. ما له وما عليه

«نداء الاتحاد العام لنقابات العمال (إلى عمال سورية)».. ما له وما عليه

الأزمة الوطنية السورية العميقة، السياسية والاجتماعية والاقتصادية، أدخلت قوى المجتمع السوري بحراك سياسي اجتماعي غير مسبوق في تاريخ سورية المعاصر، والحراك هذا لن يتوقف طالما مكونات الأزمة قائمة، بل سيتعمق أكثر فأكثر مع تبلور مواقف قوى المجتمع السوري التي بدأت بتكوين فضاء سياسي جديد، لايشبه ما كان موجوداً قبل الخامس عشر من آذار، فقد ظهرت قوى سياسية جديدة، ويلوح بالأفق بدء اندثار قوى أخرى، وتتكيف قوى ثالثة مع ما هو جار، محاولة تطوير خطابها وبرامجها وأدواتها بما يحقق لها البقاء على قيد الحياة، والاستمرار بدورها السياسي المفترض.

إن هذا الحراك الاجتماعي السياسي الجاري الآن، هو حقيقة لا يمكن تجاهلها أو القفز عنها، ورؤيتها من زاوية واحدة فقط بأن هذا الحراك هو (مؤامرة)، ولا شيء غير المؤامرة التي تحاك خارجياً من القوى الخارجية، وتنفذها داخلياً القوى المرتبطة بها، أن التوصيف بهذا الشكل أمر غير واقعي وقاصر ولا يتسق مع ما هوجار على الأرض، حيث هناك قوى وطنية سياسية وشعبية تناضل من أجل الخروج الأمن من الأزمة بأقل الخسائر الممكنة، وهمها الدفاع عن الوطن ضد أي عدوان خارجي محتمل مع الاستمرار في الحفاظ على الحراك الشعبي السلمي الذي له مطالبه المشروعة السياسية والاقتصادية التي جرى الاعتداء عليها خلال العقودالمنصرمة بسبب السياسات الاستثنائية التي اتبعت وبسبب السياسات الاقتصادية الليبرالية التي استكملت ما بدئ به اقتصادياً منذ التسعينات من القرن الفائت.

إن المؤامرة الخارجية لا يمكن لها أن تنجح وتحقق أهدافها إذا لم تجد لها تربة خصبة تنمو وتترعرع فيها، وهذه التربة الخصبة قد أوجدتها السياسات الليبرالية على مدار السنوات السابقة أنتجت فيها بؤر الفساد الكبير وزرعت كل الموبقات التي يحصد آلامها الآن شعبنا السوري العظيم وخاصة طبقاته الشعبية بما فيها الطبقةالعاملة السورية، التي استهدفت بنيران غزيرة من جانب السياسات اقتصادية الليبرالية شملت مستوى معيشتها ومكان عملها وحقوقها ومكاسبها كافة، وهنا لا نفرق بين عمال قطاع عام أو قطاع خاص، فالجميع أصابتهم شظايا السياسات الليبرالية في مقتل دون أن تجد الطبقة العاملة السورية من يضمد جراحها النازفة حقداًوكراهية على من تسبب وساهم في نزفها هذا، وتضميد جراحها يعني الوقوف إلى جانبها دفاعاً عن حقوقها ومكاسبها وحرياتها النقابية والديمقراطية التي هي بمثابة الهواء التي نتنفسه كي تستنهض قواها الجبارة في مواجهة العدوان الخارجي وقوى الفساد الكبير في الداخل دفاعاً عن الوطن وعن القطاع العام والقطاع الخاصالمنتج باعتبارهما القاعدة والمرتكز الحقيقي لتلبية الحاجات الضرورية لشعبنا في ظل الحصار الاقتصادي المضروب الآن على سورية من كل الجهات، وبأشكال وألوان عدة، هدفها الأساسي تعميق الشرخ القائم بين السياسات الحكومية والطبقات الشعبية التي اكتوت من تلك السياسات، وما زالت تعاني الأمرين منها في تأمينلقمة عيشها واحتياجاتها الضرورية، وكدليل فاقع وراهن على هذه الأزمة الكبيرة، أزمة توزيع مادتي الغاز والمازوت، والارتفاع الجنوني في أسعار المواد الأساسية، مما رتب أعباءً إضافية لا طاقة للفقراء من أبناء شعبنا عليها، ومنهم الطبقة العاملة السورية، حيث وجهت إليها قيادة الحركة النقابية نداءً مذكرةً إياها بدورهاالوطني الذي قامت به في مرحلة النضال من أجل الاستقلال عن المستعمر الفرنسي داعية العمال إلى: (تعميق مفهوم الاعتماد على الذات في الصناعة الوطنية والزراعة والطاقة البديلة ومضاعفة الجهود الفردية والجماعية لمواجهة هذه الضغوطات من خلال اتباع نهج اقتصادي تعددي أساسه القطاع العام يحد من كل أشكالالهدر والفساد ويكفل الاستثمار الأمثل لمختلف طاقاتنا الوطنية بما يؤدي إلى تحصين صمود سورية في مواجهة المؤامرة الشرسة..).

لقد حدد الاتحاد العام لنقابات العمال ثلاث نقاط رئيسية من أجل تحصين صمود سورية  وهي: الاعتماد على الذات، واتباع نهج اقتصادي تعددي أساسه القطاع العام، والاستثمار الأفضل للطاقات الوطنية، وهذه النقاط المطروحة في النداء هي بمثابة برنامج عمل للنقابات في ظل الأزمة الحالية العصيبة التي تمر بها سوريةأرضاً وشعباً.

إن هذا البرنامج المطروح يحتاج إلى آليات عمل وإجراءات حقيقية وملموسة على الأرض، في مقدمتها قطع الصلة مع السياسات الليبرالية التي تبنتها الحكومة السابقة ومازالت إلى الآن تتبناها كنهج اقتصادي اجتماعي جعلت الاقتصاد الوطني (الصناعي ــ الزراعي) رهينة لهذه السياسات واتفاقياتها الخارجية من خلالسياسة الانفتاح الواسع على المراكز المالية الرأسمالية التي تمارس عقوباتها الاقتصادية والسياسية مستفيدة من الميزات الكبيرة التي منحتها إياها السياسات الليبرالية، وهذا يؤكده الميزان التجاري الخاسر المقدر بـ 132 مليار ل.س في عام 2010، ونسب التضخم المرتفعة المقدرة بـ7.5% والعجز الفعلي في الموازنة مايقارب الـ 40 مليار ل.س، وعدم الاستثمار في الاقتصاد الحقيقي، والتركيز والتوجه الفعلي نحو الاقتصادي الريعي (العقاري، السياحي) حيث نمت في هذا القطاع بؤر الفساد الكبير، واستولت على قسم هام من الموارد الضرورية المقدرة بـ800 مليار ل.س سنوياً والمفترض استثمارها في الاقتصاد الانتاجي والخدمي الذيسيحقق معدلات النمو المطلوبة لمواجهة الأزمات المستعصية كالفقر والبطالة التي قدرت الآن حسب وزير العمل بـ22% حيث الحكومة السابقة قدرتها بـ8.5% وارتفاع الأسعار والصحة والسكن والنقل والتعليم وغيرها من المتطلبات والاحتياجات الضروري تأمينها للطبقات الشعبية المتضرر الأول والأخير من استشراءالفساد، وبالتالي إذا ما استطاعت القوى الوطنية والحركة النقابية إنجاز هذه المهمة الوطنية الكبرى، وهي الاستيلاء على الأموال المنهوبة عبر ضرب مراكز وقوى الفساد الكبير، فإن هذا سيؤدي حتماً إلى تبني نهج اقتصادي جديد يحقق العدالة الاجتماعية من خلال إعادة توزيع الثروة مرة أخرى، ليس بين الأغنياء والأغنياءوإنما بين الفقراء والأغنياء، الذين يستولون الآن على القسم الأساسي من الثروة، وتتمركز بين أيديهم الموارد الضرورية التي إذا ما جرى تأميمها وإعادة استثمارها في إصلاح القطاع العام وتطويره وتخليصه من ناهبيه، وهذا يتم عبر الاستفادة القصوى من الإمكانيات الكبيرة التي تملكها الحركة النقابية والطبقة العاملة منخلال توزع كوادرها على كل المواقع الإنتاجية الخدمية.

إن تجربة الحركة النقابية مع الحصار الذي فرض في ثمانينيات القرن الماضي تعطينا القدرة للرهان على إمكانية الطبقة العاملة السورية والاعتماد عليها لمواجهة الحصار وإيجاد البدائل المحلية التي تبقي عجلة الإنتاج تدور دون توقف خاصة وأن سورية تملك من التنوع الاقتصادي ما يمكنها من مجابهة الحصار وكسرهلجهة صمود شعبناً وتحقيق مطالبه المشروعة التي رفعها الحراك الشعبي السلمي، والذي يتجاهله الكثيرون، ولا يرون فيه إلا خطراً حقيقياً على مصالحهم وخاصة قوى الفساد الكبير التي لا مصلحة لها في تطور سورية نحو دولة مدنية ديمقراطية تكون فيها الكلمة الأولى والأخيرة للشعب السوري من خلال المؤسسات المعبرةعن مطالبة وحقوقه السياسية والاقتصادية والمنتخبة من قبله انتخاباً ديمقراطياً لا تشوبه لوثة المال السياسي أو المال الحكومي.

إن أمام الحركة النقابية تحديات وطنية حقيقية تتطلب منها تجاوز آليات عملها الحالية وخطابها، ورؤية المتغيرات الجارية على الأرض التي أحدثها الحراك الشعبي السلمي، الذي هو مستقبل سورية القادم، وهو من سيطهر الدولة والمجتمع من رجس الفساد الكبير وحلفائه المحليين، وهو من سيوجد الأدوات والآليات التيستحرر الأرض المحتلة عبر المقاومة الشعبية الواسعة التي لا طريق سواها لتحرير الجولان المحتل.