البُعد المطلوب لرؤيا الوقائع في قصص البرتو مورافيا
قيس مجيد المولى قيس مجيد المولى

البُعد المطلوب لرؤيا الوقائع في قصص البرتو مورافيا

من العناصر الضرورية في القصة القصيرة؛ التكثيف والتركيز ومتطلبات أخرى فرضها التحولُ الذي طرأ على الفن القصصي بعد الحرب العالمية الثانية حين مسّت المتغيرات الذات الإنسانية، فأطلقت مكنوناتها للتعبير عن حاجاتها ومنها التوق للحرية وتقرير المصير.

وقد عد الكاتب الإيطالي البرتو مورافيا أحد الكُتاب المهمين في فن القصة القصيرة ذات الاتجاه الواقعي رغم ما تتمتع به مخيلته من خيال خصب وقدرة على خلق المصادفات المؤثرة في العمل القصصي، ولاشك أن طغيان الأسلوب الواقعي والذي بدأ في روسيا وأميركا ثم انتشر بعد ذلك ضمن فرنسا وبريطانيا كان بمثابة خلق بيئة جديدة تسع الحوادث التي مرت بها المجتمعات آنذاك.

وكان لا بد من إيجاد ما يمكن تسميته بحلقة الوصل ما بين المشكلات النفسية التي عانى منها المجتمع الغربي وبين إحساساته الإنسانية بعد كارثتي الحربيين الكونيتين، وكانت تلك حاجة مورافيا نفسه لتوظيف قدراته ضمن هذا المنحى الذي وجد به ضالته لرسم أفكاره وتخطيط شخوصه واختيار أماكنه المحددة والتركيز على الأهم منها في مواجهة طغيان إشكالياته التي لا زالت ترفض التحرر من أسلوبه الرمزي وخياله المنفلت وهو ما جعل مورافيا أن يكتبَ في مقدمة "امرأة من روما" إن شخوصه المحليين، و"كذا أماكنهم وأزمنتهم وطريقة اختياري لهم بأن يتحدثوا بلغة المتكلم لم أجد أن يتحدثوا بلغتهم المحلية كوني لا أجد غير لغة الأدب هي اللغة القادرة على التواصل بشكل ممتع وحساس مع متطلبات حاجات الذات للوصول الى قدرات أرقى في التعبير، لذلك نهضت اللغةُ بشخوصي ومهما كانت اللغة المحلية التي استخدمها البعض من القصاصيين تحت غطاء الوقائع فأنها لن تأتي بالبعد المطلوب لرؤيا الحقيقة، كما هي ضمن التوريد الجمالي للأحداث والوقائع".

إن مورافيا يرسم المعطيات كما هي، بل تراه يحرص على نقلها بشكلها المألوف في الذاكرة فعندما يتحدث عن محل للحلاقة في أحد قصصه يجعل المتلقي يدخل في ذاكرة هذا المحل قبل دخوله المعتاد اليه أي أنه يتقدم أولا صوب العام ثم يبدأ تفكيك العام بمستويات بطيئة مع الإمساك بالمفاصل المهمة للمرئي لينشئ من خلالها حبكته غير المتوقعة، أي أنه حين يضع أمامنا الأشياء المعلومة والتي تشبه القوانين فأنه يأتيك بنتائج غير متوقعة بوجود لغة شبه مألوفة تصلح اصطلاحاً لوصفها بأنها لغة الواقع، لكنه سرعان ما يعطي رشقات من المغايرة في أسلوبيته تعمل على تحفيز الذهن وسرعان ما يتم تقبلها بل والانسجام مع المتغيرات الصورية بين منحنيات الأسلوب ففي طفلهما السابع يقول مورافيا عندما زارتنا السيدة الفاضلة مندوبة جمعية رعاية الأحداث طلبت منا بيان أسباب إنجابنا لهذا العدد من الأطفال بعد أن رزقنا بالطفل السابع، لقد أخبرتها زوجتي بالحقيقة حين قالت لها "لو كان باستطاعتنا أن نملك مالا لقضينا أمسياتنا في السينما أو في نوادي الترفيه، وحيث لا يوجد المال نذهب الى سرير الزوجية مبكرين".

إن السيطرة على الحدث ضمن كثافته والتركيز على معطياته بتفاصيله المختصرة والمؤثرة في سير السرد القصصي هي إحدى العلامات الفارقة في أسلوبية مورافيا وهناك العديد من الشواهد لهذه العلامات الفارقة في مجموعته القصصية "حكايات من روما" سواء في قصصه (المتصابي – طفلها السابع – الأنف الملعون – مزاح في جوحار – فتاة من شوزاريا – ليس ضروريا التنقيب عميقاً ..) وغيرها من القصص التي احتوتها مجموعته تلك.

ولعله شكّل سابقه أخرى حين يضع نفسه بدور الرجل غير المُرضى عنه أو الرجل الذي يشبه الرجال السيئين، أو الرجل صاحب الإحساس غير المتقد، وكما هو نراه في سرده ضمن هذا الوصف أو ضمن وصفه حين يريد أن يكون في إحدى قصصه رجلا مثاليا، وفي كليهما ورغم استخدامه للغته الأدبية المحدودة في مفرداتها فإنه يثير الإعجاب في صنع تكامل النص السردي وإتقانه لمشغله الدرامي ضمن لغته تلك لتحقيق هدفه الإنساني.

 

المصدر: ميدل ايست اونلاين