البحث عن الأب: «منظر في السديم»
صباح جلّول صباح جلّول

البحث عن الأب: «منظر في السديم»

«في البدء كان الظلام»، تهمس فولا لأخيها الأصغر ألكسندروس، «ثمّ كان النور، وانفصل النور عن الظلام..»، كل ليلة يطلب ألكسندروس من فولا أن تحكي له قصّة قبل أن يخلدا إلى النوم، فتبدأ بسِفر التكوين. وفي كل ليلة تأتي الأم للاطمئنان إلى أنّهما ناما، فيسارعان إلى ادّعاء النوم، ولا تصل القصة إلى مكان.

"أبي العزيز، نكتب لأننا قررنا المجيء والعثور عليك. لم نرك أبداً ونحن نفتقدك". فولا وألكسندروس يقرران أخيراً ركوب القطار وحدهما، من أجل السفر إلى ألمانيا، حيث أقنعتهما الأمّ بأن أباهما يقطن.

"أحياناً في طريق عودتي للمنزل من المدرسة، أعتقد أنّني أسمع وقع خطوات خلفي، خطواتك. وعندما ألتفت لا أرى أحداً، ثمّ أشعر بالوحدة الشديدة. نحن لا نريد أن نكون عبئاً عليك. نريد فقط أن نتعرف عليك، وبعد ذلك سنسافر ثانية. إن كنت سترسل إلينا ردّاً، فافعل ذلك مع صوت القطار: تتن، تتن..". جسدان صغيران مطويّان على بعضهما البعض، على أرضية رواق قطارٍ يتحرّك. هكذا تبدأ رحلة الصغيرين للبحث عن والدهما.

تتكرر ثيمة "البحث عن الأب" في مجمل أعمال المخرج اليوناني ثيودوروس أنغلوبولوس، نظراٌ لمحورية الموضوع بالنسبة إليه منذ الطفولة، كما يقول في إحدى المقابلات. لكنّه في هذا الفيلم يتعامل مع فكرة الأب كما لو كان كائناً ميثولوجيّاً إغريقياً، يؤمن به الطفلان تمام الإيمان، لكنهما لم يبصرانه يوماً.

في الطريق، يشهد الطفلان موت حصان وزفافاً تبكي فيه عروسٌ هاربة. يعرفان الصداقة، الكذب، الخداع، العمل مقابل الطعام، جنود الحرب، مساءلة الرب، والحب. يمشيان في شوارع ساكنة مهجورة، أو مجمّدة لا يتحرّك فيها شيء، أو أحد غيرهما. عندما خرج الطفلان دون درع إلى الحياة، وجدا نفسيهما في الـ"واقع الحلم". 

يقترب الفيلم من السوريالية عندما يقفان جنب صديقهما الشاب أورستيس عند البحر، وتُخرج طوّافة يداً ضخمة من أعماق البحر. "من، إذا ما أطلقتُ صرختي، سوف يسمعني بين ملائكة السماوات؟"، يصرخ الممثل الشاب مقتبساً من ريلكيه. فيما يشاهدون ثلاثتهم يداً من حجر، نصف مفتوحة، تبتعد في السماء كأنها إله ينفض يده من الخلق، أو كأنها الأسلاف وقد ضحكوا من فراغهم من التجربة وضياعهم في الطريق. قد يكون هذا واحداً من أقسى مشاهد الفيلم. إضافةً للمشهد الذي تتعرض فيه "فولا" للاغتصاب من قبل سائق شاحنات عرض عليهما المساعدة. نرى الشاحنة مركونة، دون أن نرى ما يحدث داخلها،  بمحاذاة طريق سريع تمر عليه السيارات غير مبالية. ننتظر بعجزٍ لأكثر من دقيقة ريثما ينتهي السائق من ارتكاب جريمته ويخرج على صوت الصغير ألكسندروس، الذي يبحث عن شقيقته. تمسح فولا دماءها برفق على جدار الشاحنة. لم تعد طفلة، وأصبحت تشكّ في جدوى الرحلة. 

أخرج المعلّم اليوناني ثيو أنغلوبولوس فيلم "منظر في السديم" عام 1988، ويحتوي الفيلم تذكيراً بأحد أفلامه الأولى "الممثلون الجوالون" (1975)، الذين يظهرون في هذا الفيلم كمجموعة ممثلين هائمين يقابلهم الطفلان. يبيعون أزياءهم في البازار، دون أن يجدوا خشبة تستقبلهم ليعتلوها. كتب أنجلوبولوس سيناريو الفيلم مع الشاعر الايطالي تونينو غويرا والكاتب اليوناني ثاناسيس فولتينوس. فيما أسند الموسيقى التصويرية إلى شريكته الدائمة إليني كاريندرو، التي صارت موسيقاها جزءاً أساسيّاً في تكوين أفلامه، وسمة فارقة فيها. التصاعد في موسيقى المشهد الأخير يبيّن تماماً كيف تكون الموسيقى جزءاً من السرد. يخرج الطفلان من الضباب، بعد أن يعبرا حدوداً وهمية. يشاهدان شجرة وحيدة في الأفق، فيركضان باتجاهها على وقع التصاعد الدراماتيكي للموسيقى، إلى أن يصلا ويحضنا الشجرة، فيصيران معها كأنهم شيء واحد.  

يقول أنجلوبولوس أن "إعادة البناء" تكون ممكنة فقط عند عودة الأب، لكنه لا يقول ماذا يعني بذلك. 

"في البدء كانت الفوضى"، ربما كان يسعى فقط إلى نهاية عكس ذلك.

 

المصدر: السفير