«حُبّ مجنون» للنمساوية جيسيكا هاوزنر.. شهوة الأدب القاتلة
زياد الخزاعي زياد الخزاعي

«حُبّ مجنون» للنمساوية جيسيكا هاوزنر.. شهوة الأدب القاتلة

مَنْ يتذكّر نصّ المعلم الأميركي ستانلي كوبريك «باري ليندون» (1975)، المقتبس عن رواية أثيرة لوليم ثاكري، واعتماده الصورة المفخّمة بوهج ألوان قصور النخبة الأوروبية في القرن السابع عشر وديكوراتها وفساتينها وباروكاتها ودسائسها وتحلّلها الأخلاقي، سيدرك كم أن جديد النمساوية جيسيكا هاوزنر «حُبّ مجنون» استثنائي وانقلابي في ما يتعلّق ببناء مشهديات شديدة الأمانة، ومُحكمة الصنعة للفترة الرومانتيكية الألمانية.

استعار كوبريك اشتغالات الرسّام البريطاني وليم هوغارث (1697 ـ 1764)، المعروف بولعه بأرشفة الشارع العادي وشخوصه وعمارته وعاداته، كمقاربته أجواء العليَّة الأرستقراطية وطلّاتها المفعمة بالنعمة والجور الطبقي، محقِّقاً ما وصفه الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر بـ«راعي الوجود وحاميه وحارسه»، عند تعريفه ماهية انسانه.

على منواله، استلهمت صاحبة «لورد» (2009) التقنيات المبتكرة للرسّام الهولندي يوهانس فيرمير (1632 ـ 1675)، خصوصاً في ما يتعلّق بتوافقاته اللونية وحساسيته الفريدة للضوء، لترسم برونق مدروس حكاية الأيام الأخيرة للكاتب المسرحي الألماني هاينريش فون كلايست قبيل انتحاره في الرابعة والثلاثين من عمره. ما أقدمت عليه هاوزنر ليس ترتيب موته، بل إنجاز تقويم زمني لعزمه الملغز في انهاء حياته. هذه حقيقة تاريخية، لكن الرهان انصبّ على تبرير غرائبيتها الدرامية ونجاعة أفلمتها. ذلك أن مؤلّف «ميشائيل كولهاس» (1810) حاول اقناع آخرين بـ«مشاركته» انتحاره، لكنه لم يجد نصيراً سوى رفيقة تدعى هنريته فوغل، كانت تفترض أنها مصابة بسرطان مشكوك فيه. صوّب إلى رأسها رصاصة غادرة، قبل أن يوجّه فوهة مسدس ثان إلى صدغه، مُنهياً بإرادته حياة قصيرة لموهوب أصيب بالخيبات. اعتبرت هاوزنر أن فيلمها «تنقيب حول موضوعة الحب، وكونه مشاعر متناقضة». بسبب هذا، واجه المشاهد تراكمات زمن متأن وخال من قصص الشهوات العاصفة. البطء سمة مجتمع كان على قدر هائل من تطامن جماعي، وجزع من تغيير، وغياب واعز ذاتي للحيوية. شخصيات تطغى عليها أرستقراطية شبابية، تفضّل استعارات أدبية على مناقشة حوار سياسي في شوارع برلين بسبب ضرائب الحكومة البروسية، وأحوال جبهات حروب تعيد صوغ أوروباهم القديمة.

رسمت هاوزنر عالماً بخطوط الأدب وتوريات جمله ونصوصه وإحالاته المقتَبَسة عن نصوص كلايست، من دون أن تجعلها حقائق بيوغرافية عن بطلها، أو خطاباً عن نيات موت تأبى في الوصول إلى إرادة زوجة وأم شابة آمنت بأن «الحب لا يُختار»، في مقابل هوس أديب ذي صيت بشخصها، كونه التبرير الكافي لمَنيَّة ثنائية جرت وقائعها الخاطفة في العام 1811. تُرى، ما الذي يدفع بامرأة نحو حتفها لولا لوثة كيانها بأدبه، وبالذات نصّه الملعون «ماركيز أو» الذي نسمع مقتطفات كثيرة منه؟ هل هو خداع ذات بـ«خاتمة رائعة، نختبر فيها مشاعر حقيقية للعشق»، بحسب قولها في غرفة فندق متواضع؟ حسم كلايست قراره بإفناء نفسه لأن «روحه مريضة بالعزلة». أما جسد الحبيبة الذي عفّر دمه تراب الغابة البكر، فيُمثّل ما هو مُحقّق في هذا الكون: «الجميع يموتون وحيدين في نهاية المطاف».

كُلّ مشهد لدى هاوزنر (1972) استدعاء جمالي مفصّل ومخلص لمحيط بورجوازي، يذكّر بقوّة بـ«نزعة كوبريك» الآنفة الذكر. كلاهما حَرَس وجوداً لا نقربه اليوم إلا في متاحف وقصور عريقة. بانت فطنتها في منجز بصري خاطف بسحره، اعتمد على «لقطات متوسّطة» ذات تناظرات هندسية مدروسة لديكورات صالات رقص وغرف ثرية، مصوّرة بضوء طبيعي غالباً، ومثلها تصاميم فاتنة للملابس وأكسسواراتها، ما يُشكّل توثيقاً لذائقة مجتمع شبه مغلق، شديد الاعتداد بأنفة طبقية لم ترحم كياناً هشّاً مثل كلايست، فدفعته إلى موت خائب بدلاً من «التبرّك» بلهفة صباباته.

 

المصدر: السفير