ثقافة الأمل بالعمل
تعاود العلاقة الجدلية بين الثقافي والسياسي فرض نفسها بنفسها، كلما اشتدت أزمة هذه العلاقة في تباعدها، وفي غربتها عن مقاصدها، وفي إشكالية انفصالها أو اتصالها بمشروعها المجتمعي الأم.
ولأن العلاقة مأزومة فإن البحث المستمر عن فك وربط هذه الأزمة، ما زال جارياً، ولو بوتيرة خجولة، ومحدودة، ومملة أحيانا، ربما لتكرار المكرر، وربما لدخول المتحاورين- المثقفين في حفلة من التنظيرات والتعقيدات التي قد تصل إلى مرحلة التًطير تحلق عاليا بعيدة عن جذور الأرض- الواقع- الإنسان، القضية، المشروع. بحيث يصعب معها التوصل إلى قاسم مشترك يشكل قاعدة أو نقطة انطلاق نحو «ماراثون» حل ٌعقدة الأزمة من حيث هي أزمة، أو التوصل إلى توصيف الأزمة بالدقة التي تتطلبها مرحلة النقاش، مع ما يترتب عن ذلك من تفاقم للأزمة العامة بحد ذاتها، وأزمة المثقفين بحد ذاتهم ، بفعل الصراع الطبقي الدائر وتناقضاته وتداعياته الكارثية.
الأزمة مطروحة تاريخيا، بحكم الصراع. لكن بعض المثقفين يعيشون عقدة «الفشل» دون الجرأة على إشهاره، ويلبسون أقنعة تمويهية- تجديدية خوفا من محاسبتهم، وسعيا وراء مواقع جديدة. وبعضهم الآخر يمتلكون عقدة «السلف» للقطع مع التاريخ دون تقديم البديل – الجديد، أو التأسيس حتى لو لبصيص أمل المرحلة الجديدة.. وهكذا يتم رمي الأزمة على الماضي دون التعلم من دروس التجارب وتمتين علاقة السلف بالخلف في رحلة البحث المجدولة بالعمل عن علاقة الثقافي بالسياسي والربط الجدلي بينهما لإنتاج علاقة منتجة وناجعة. أما مصير المستهدف من هذه النقاشات الطويلة والعقيمة، والمقصود بها – الجماهير المقهورة والمغلولة فإنها تبقى أهدافاً افتراضية- نظرية، فيما هم، على أرض الواقع خارج فضاء يقي أجسادهم من نهش الذئاب المستمر للطغمة المالية ولأنظمتها التابعة المصفوفة كحرف «الألف» خلف القطب الامبريالي الأميركي وثقافة مشروعه المدمر.
دائرة الأزمة تتسع، وتتسع معها دائرة الأسئلة ذاتها، هي أسئلة ثقافوية ممجوجة أحياناً، ومملة أحياناً أخرى إلى حد الإحباط . تأخذك إما إلى حنين سوق عكاظ ، أو إلى عروض مسارح ثقافة النخبة، وجمهورها الضيق، بحيث أن الأسئلة تبقى في دائرة حلقتها النخبوية الضيقة دون إضافات معرفية تذكر من خارج الكتب النظرية والفلسفية والثقافية المتوفرة والمنسية على الرفوف أصلا، والتي يتم استحضار مقاطع أو أجزاء منها كدليل على ثقافة المثقف.
محصًلة هذا الكم الفائض من التحليل الثقافي والمعرفي، لا يعادل صفرا مكعبا فحسب، إنما أوصل إلى المزيد من تفاقم أزمة المثقفين بذاتهم، وإلى ازدياد عقدهم، وتحميلها للناس بغرض التهرب من مسؤولياتهم كنخبة مثقفة.
لنعترف، أن الثقافة الطبقية- التغييرية مأزومة، بأزمة مركبة. بذاتها وبنقدها: إما بذاتها فلأنها تجمل وجهها الجديد فقط بعقلية القديم. وإما بنقدها للقديم فيشوبه عيب غياب البديل بما في ذلك بلادة وعقم قراءة الواقع لإنتاج الجديد.
أمام هذا الكم الهائل من التعرض للتشوهات الثقافية من اليمين ومن اليسار اليميني، فإن البحث عن أية ثقافة، وأي مثقف يؤدي دوره النضالي في بناء المشروع الثقافي والسياسي التغييري المطلوب.. يكون هو المطلوب وليس غيره.
فالعلاقة بين الثقافي والسياسي جدلية، وانفصال السياسة عن الثقافة هو السياسة بحد ذاتها، حيث إن الثقافة بإبداعاتها ما هي إلا قناة الممارسة السياسة، أي القناة الثقافية والمعرفية لتصريف مشروع التحديث والتغيير والانتقال بالمجتمع من حال إلى حال أفضل. وساحة هذا المثقف هي ساحة النضال الثوري، والنقد الثوري، والمشاركة الطوعية لبناء المجتمع الثوري البديل، في مثل هذه الظروف الموضوعية أو الذاتية، السراء منها والضراء في مراحل النهوض أو التراجع، فوظيفة المثقف هي في قدرته على نحت معرفته الثقافية في وعي الناس، وتحويل هذه المعرفة إلى أهداف تعبر عن مصالح القوى الاجتماعية التي يمثلها طبقياً.
ولأن الثقافة ركن أساسي في التشكيلة الاقتصادية – الاجتماعية، فإنها تبقى نخبوية ما لم تخاطب نبض الناس. وحركة الشارع، وبالتالي لا حياة لثقافة إن لم تكن ولاًدة لمشروع سياسي تحرري قادر هذا المشروع على تحقيق مصلحة الطبقة العاملة والفئات الكادحة التواقة لفعل التغيير. فالثقافة المقصودة هنا، هي عملية ثورية لا يؤديها إلا مثقف ثوري متحرر من كل قيود السلطة وإغراءاتها في كل ما يتعلق بكل إنتاجه الفكري وإبداعه الثقافي والسياسي ..
اليوم، ومع انتشار ثقافة التعليب والتخويف والاستهلاك، ومع ازدياد مخاطر المشروع الامبريالي الاستعماري الجديد، المترافق مع توطين ثقافة التفتيت والتطييف، وسط أزمة بنيوية لأنظمة عربية لا تشبه الأنظمة الإنسانية.. ووسط تنامي دور الحركة الشعبية وثوراتها الميدانية الباحثة عن ثقافة ومشروع سياسي واجتماعي يخلصها من قيود أنظمتها الحديدية، وإطلاق حريتها وتكريس حقوقها الإنسانية في العدالة والمساواة والديمقراطية.. فإن ما يحتاجه مجتمعنا كضرورة وطنية هي ثقافة تنتمي إلى الوطن والإنسان، والى مثقف يحفر هذا الوعي في الحقول الثقافية والفكرية المتجذرة في انتمائها الوطني، والمتجددة في واقعها المعرفي والاجتماعي، لبث ثقافة الأمل بالعمل نحو رحلة الحياة الحرة والكريمة، عبر مقاومة ثقافة التخلف، وثقافة الانتماء لأحكام العصور الغابرة أو لثقافة الشركات العابرة. ما يعني العمل على توليد ثقافة الممكن لعمل المستحيل. والمستحيل هو، الانتصار لثقافة التغيير الجذري.
*****
إن طبيعة الصراع الدائر، ونوعية الاستغلالات والتناقضات تستوجب بالضرورة جذرية المواجهة من أجل التغيير. والتغيير عملية ثورية شاملة في عواملها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولا يقل العامل الثقافي شأناً عن سواه في المشروع التحرري الوطني. ولا يعني هذا أن المثقف الثوري يصنع التغيير وحده نظريا، إلا بممارسة سياسية ثورية إلى جانب الطبقة العاملة والحركة الجماهيرية.. وهكذا تتجلى علاقة الثقافي والسياسي، وتتوقف على طبيعة الصراع الطبقي، وعلى جدلية النظرية والممارسة في إنتاج معادلة وظيفية نضالية توازن بين مستلزمات دور المثقف الثقافي في معركة التغيير السياسي والاجتماعي، ودور المثقف السياسي في ملامسة موجبات العمل لخوض معركة البديل الثوري.
*****
مهمة البحث عن أسئلة، هي دائما مهمة مشروعة جداً، لكنها وحدها غير كافية، ما لم ترتبط بمهمة البحث عن أجوبة تجيب عن أسئلة وجع الناس، وتضع إصبعها الثقافية والمعرفية نحو الطبقة المًولدة لآلام واضطهاد الفقراء المنتشرين في الساحات والميادين النضالية في وطننا العربي، الذين برهنوا مجددا عن قدرات خارقة في الوعي والحركة والفعل، وأجابوا من خارج فضاء النقاشات النخبوية على الكثير من أسئلة المثقفين التائهين. وأكدوا، بأن الثقافة متى افتقدت بعديها الاجتماعي والسياسي تصبح ترفا نخبويا، وبرهنوا مرة جديدة للتاريخ، بأن الطبقة العاملة هي الطبقة القادرة على التفكير في الوجع الطبقي- التاريخي ، وهي الوحيدة القادرة على فعل تغييره.
*****
عند امتهان ملكة ثقافة الأمل بالعمل.. تبدأ رحلة التغيير الجذري. لوطن عربي بأمس الحاجة إليه.