من ناجي العلي إلى «مُع»: الفن يقاوم وينتصر
ليس بإمكان أيّ ثورةٍ أو مقاومة في العالم أن تنتصر بالسلاح وحده. رغم أنّه درع الثورة وسيفها، إلا أنّ السلاح يعجز تماماً عن خلق ذلك الرابط الحقيقي بين المواطن العادي القابع في منزله وأخيه على الجبهة.
لذا، يكون الرابط عادةً هو الفنّ: الكلمة، واللوحة، والأغنية. لذا، لم يكن غريباً أبداً منذ بداية عدوان غزّة في 8 تموز (يوليو) الماضي أن يعود الفن المقاوم للزغردة من جديد.
الفن المقاوم كسمة عامة يمثّل جزءاً لا يتجزّأ من المحيط الثقافي للوطن العربي، حيث لطالما كان هناك محتلٌ. زغردت الأغنية الوطنية والفنّ المقاوم شعراً كان أو رسماً منذ أيام ناجي العلي وزهدي العدوي، وصولاً إلى محاولات الفنانين الشباب اليوم على المواقع الإلكترونية، ولا تزال المقاومة الفنية تستكمل طريقها ذاته.
ولأنه عصرٌ جديد، فلا بد من عُدة جديدة وأساليب مشابهة. «مشاع إبداعي» (أو «مُعْ» كما يكتبها) واحدة من تلك التجارب التي برزت منذ بداية العدوان. ترتكز مهارة الفنان هنا على انتقاء صورة (محتفظاً بشكلها الأصلي)، ثم وضع جملة أو كلمةٍ فوقها بخطٍ يكاد يكون أقرب إلى الخط الذي كان يُستعمل في بوسترات أفلام السبعينيات. تتنوّع الكلمات كما تتنوّع الصور، لكن الرابط الوحيد الذي يجمع كل الصور هو فكرتان: المقاومة والانتصار، فمجموعة «مُعْ» كما يبدو من اختيارات صورها، لا تحبّذ أبداً المشاهد التي تؤذي الشهداء أنفسهم قبل متابعيهم. ويكفي أن تنظر إلى إحدى لوحاتها التي تظهر شاباً فلسطينياً على سرير أحد المستشفيات، يده ملفوفة بالشاش الأبيض ويرفع راية النصر بالأخرى، وكلمة «لا تمت» تظهر بلونها الأبيض بوضوح في إشارة إلى جملة الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني «لا تمت قبل أن تكون ندّاً». في الإطار عينه، يبرز الفنان وليد إدريس الذين يختلف أداؤه الفني تقنياً عن عمل «مشاع إبداعي». هو ينهج ناحية الرسم الغرافيكي الكامل، أي ليس هناك من صورة بألوانها الأصلية، بل هناك ما هو أشبه برسوم بألوان مائية (إنما إلكترونية) مع التركيز على الفكرة وحرفة إيصالها. نحن أمام تجربة كاريكاتور إنما بشكلٍ إلكتروني/ غرافيكي. يحاول وليد إدريس أن تكون فكرته شاملةً ومحيطة قدر الإمكان، وإن قلّل تماماً من استعمال الكلمات وإن احتاجها أحياناً لإيصال الهدف بدقة وحرفة. ويركّز الفنان الشاب على استعمال الخريطة الفلسطينية (أو خريطة غزّة أخيراً) كثيراً، كما أن الرمز متأصّل في أعماله، فيبرز «المفتاح» كرمز للعودة، و«البندقية» خريطة للطريق. نجد كذلك «البرتقال» في إشارة إلى الفاكهة الأصيلة لفلسطين، وسواها من الإشارات التي تربط المشاهد بالفكرة الأصلية. نجد أخيراً صورة لخريطة غزّة وهي بين متقاطعي منظار القنّاص وتحتها كلمات: «احترس الغول على بعد 2 كلم من مكان وجودك»، في إشارة إلى بندقية «الغول» التي كانت المقاومة الفلسطينية قد أعلنت عن صنعها أخيراً. لكن لا ريب أن أبرز ما شهدته مواقع التواصل هو تحويل صور الدخان الناجم عن سقوط الصواريخ الصهيونية المدمّرة على أبنية غزّة إلى حرفة فنية ورمزٍ للانتصار. ما تقوم به الفنانة الفلسطينية بشرى شنان ذات الخمسة والعشرين عاماً، هو الأقرب إلى الفكرة بحدّ ذاتها وبعقلية الفلسطيني الغزّي المقاوم. أن تستطيع أن تخلق من أقصى وأقسى مشاهد الموت والدمار أملاً وحلماً فنياً. مشهد الدخان المتصاعد الذي يتحوّل إلى رؤوس أسودٍ مزمجرة، أو طفل يودع طفلاً آخر تحرسه الملائكة، كلّها رسمت وانتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي بشكلٍ كبيرٍ، فالفكرة الخلاقة لا تحتاج الى من يسوّقها، هي تبيع نفسها بنفسها.
لكن، ماذا بعد بالنسبة إلى هذه التجارب؟ هل يمكن تحويل هذه التجارب بحد ذاتها إلى نوعٍ من العمل المنهجي المقاوم، أم أنّها ستبقى أسيرة ردة فعل معتادة، وخصوصاً أنه لغاية الآن يمكن ملاحظة أن أغلب رسوم الشباب تنهج ناحية الرد أكثر من فكرة الهجوم بحد ذاتها؟ نجاح تجربة الرسام الفلسطيني الأشهر ناجي العلي كان قوامها أنه كان هجومياً وحاداً وبنى مدرسته على ذلك، ولم ينتظر الحدث بحد ذاته، بمقدار ما كان يمهّد له ويصنعه حتّى، فهل نحنُ قريبون من الحلم؟
المصدر: الأخبار