معظم المخرجين العرب الشبان يخترقون الواقع
نديم جرجوره نديم جرجوره

معظم المخرجين العرب الشبان يخترقون الواقع

مأزقُ سؤالٍ متمثّلٍ بـ«السينما العربية الجديدة» كامنٌ في اتّساع العنوان، ومتفرّعاته الكثيرة، المنضوية كلّها في أطر تُختَزل بـ«معنى الجديد» في السينما العربية: هل يعني هذا قراءة الإنتاجات السينمائية العربية الجديدة، أم محاولة تحديد الأسس الجمالية والدرامية والفنية الجديدة في هذه الإنتاجات؟ هل يعني هذا معاينة آخر ما صنعته تلك السينما، سواء كانت النتيجة أفلاماً جيّدة أو سيئة، أم ما يُمكن أن تُقدّمه النتاجات الجدّية من مفاهيم متعلّقة بصناعة الصورة واللغة السينمائية، وآليات المعاينة الجمالية والدرامية للمواضيع المختارة؟

 لكن، هل فعلاً هناك «سينما عربية جديدة»، بمعنى قدرتها على ابتكار مفردات تجديدية في صناعة الأفلام الحديثة؟ غالب الظنّ أن كل الجديد العربيّ المُنتَج في الأعوام القليلة الفائتة لم يستطع، لغاية الآن على الأقلّ، ابتكار مفهوم نقدي مختلف ومتجدّد. صحيح أن أفلاماً عربية حديثة الإنتاج كشفت، من بين أمور أخرى، وجود جماليات متنوّعة كسرت التقليدي في كل شيء، وفتحت أفقاً للمختلف. لكن هذا يبقى حكراً على نتاجات فردية بحتة. الخارطة الجغرافية العربية قابلة لتوليد إنتاجات فنية مختلفة، وإن لم تبلغ هذه الإنتاجات نفسها مرتبة إبداع المشترك في التجديد. أم أن الأسلم تفعيل تلك المقولة القديمة التي تفيد بأن هناك «سينمات عربية»، لا «سينما عربية»؟ وبالتالي: القول مجدّداً إن صناعة التجديد في السينما العربية حكرٌ على المبادرة الفردية البحتة؟

 

حالة سينمائية؟

هذا أفضل وأسهل في قراءة الجديد على مستوى إنتاج الأفلام تحديداً. هناك استحالة نقدية للقول بوجود حالة سينمائية عربية، تخرج من عباءة الماضي، وتُشكّل سياقاً يريد الاستفادة القصوى من التطوّرات التقنية المتنوّعة في اشتغالاته الجمالية والدرامية. المأزق الفعلي هنا كامنٌ في أن سينمائيين عرباً شباناً أتقنوا المزج بين هذه التقنيات من جهة أولى، والتحرّر الأقصى من التعبير التقليدي في الصورة والكلام من جهة ثانية، وابتكار مناخ إبداعي يتلاءم والهواجس الراهنة، التي يعيشها هؤلاء الشباب في مرحلة الانقلابات المدوّية، من جهة ثالثة. ليست المسألة سهلة. التحدّيات تزداد كلّما تطوّرت التقنيات، وكلّما غاص العالم العربي في متاهات العيش إما في كهوف الماضي، أو في فراغ الآنيّ، أو في غموض المستقبل. أي أن المواد كثيرة، والتقنيات تزداد تطوّراً عاماً تلو آخر، بينما النتاجات الإبداعية الجادّة والمفيدة تبقى دون المطلوب (شكلاً أو مضموناً، أو شكلاً ومضموناً معاً)، وإن فرضت لنفسها مكاناً ومكانة ما في المشهد السينمائي الدولي. حتى النتاجات السينمائية المنضوية في سلك التجاريّ والاستهلاكيّ لم تستطع الاستفادة من التقنيات الحديثة، لجهلها إياها، أو لعجز واضح في كيفية التعامل معها، لشدّة التسطيح والسذاجة المتحكّمين بصناعتها. أساساً، لا تحتاج الأفلام التجارية الاستهلاكية المُسطّحة إلاّ إلى أبسط الأدوات الممكنة، توفيراً للمال، وانسجاماً مع الفراغ الساحق فيها. حتى أن تحقيق بعضها إيرادات كبيرة في شبّاك التذاكر، ظلّ غير مبالٍ بأي شيء آخر، باستثناء «تركيبة» هابطة في الكتابة والتمثيل والمعالجة والتصوير والمونتاج، وغيرها من الأدوات التقنية والفنية. بينما عدم تحقيق الأفلام العربية الجادّة والمهمّة أرقاماً مقبولة على الأقلّ من شبّاك التذاكر لا يعني البتّة أنها غير قادرة على بلورة مسار مستقبليّ جديد لسينما عربية تجديدية، لأنها متمكّنة من تعبيرها الإبداعي، وفاتحة أفق جديد في القول والمعالجة، وقابلة لأن تكون تأسيساً متيناً لصورة سينمائية أكثر عصرية وحداثة، وأفضل تعبيراً وبوحاً، وأجمل تصويراً ومعالجة.

بعيداً عن سؤال التجديد الحديث في صناعة السينما العربية، يُمكن القول إن جديد النتاج السينمائي العربي يمتلك مفردات تؤهّله لطرح أسس تجديدية مطلوبة. البداية مع أمثلة تعكس شيئاً من الفكرة التي أرغب في مناقشتها: هل هناك تأسيس فعلي لمثل هذه السينما العربية المنشودة؟ بعض الأمثلة مفيدٌ: «هُمُ الكلاب» للمغربي هشام لعسري. «الخروج للنهار» للمصرية هالة لطفي. أفلام وثائقية لبنانية مُنتجة في الأعوام القليلة الفائتة. الأفلام الثلاثة الأخيرة للجزائري مرزاق علواش («حرّاقة» في العام 2010، «نورمال» في العام 2011، و«التائب» في العام 2012). «بركات» (2006) و«يما» (2012) للجزائرية جميلة صحراوي. نتاجات الفلسطيني إيليا سليان، واختبارات مهدي فليفل وبلال يوسف وغيرهما أيضاً في فلسطين. النماذج كثيرة. الأفلام كثيرة. هناك أيضاً التونسيان هنية بن كوثر (شلاط تونس) ونجيب بلقاضي («VHS كحلوشة» و«بستاردو»). جود سعيد وتنويعات اختباراته الروائية الطويلة. بالإضافة إلى المصريين إبراهيم البطوط وأحمد العبدالله ونادين خان وأحمد نور، والفلسطينية الأردنية ميس دروزة و«حبيبي بيستناني عند البحر». نماذج لم يتمّ اختيارها عشوائياً، لأنها تعمل على إيجاد مقوّمات حديثة لسينما عربية تولي أهمية قصوى للصورة، بقدر اشتغالاتها على المضمون. نماذج تعكس شيئاً من معنى «السينما العربية الجديدة»، سواء كانت هذه السينما جديدة في تواريخ إنتاج أفلامها، أو على مستوى اللغة التجديدية المطلوبة. نماذج منبثقة من وقائع العيش على التخوم القاسية للحياة والموت، وعلى المفترق الأساسي للتحوّلات، وفي قلب التبدّلات الحاصلة، في السياسة والاجتماع والانفعال والمعرفة. نماذج مستلّة من عمق الحكايات المتناثرة هنا وهناك، والقائلة بحيوية اللحظة، والذاهبة إلى مفرداتها الإبداعية كي ترسم شيئاً من راهن الآنيّ. نماذج أتقن صانعوها كيفية جعل الصورة مساحة للتعبير، والشخصيات مرايا تعكس الواقع والذاكرة، وتنبض بحياة تخترق الممنوع والمحجوب، أو تحطّم الأصنام، أو تبوح بمكنونات الذات والروح والبيئة، أو تقول شيئاً من المستور.

 

تحدّيات

لن تكون «ثورة الياسمين» (2010) في تونس و«ثورة 25 يناير» (2011) في مصر «لحظة» مطلوبة لتأسيس نمط جديد من الإنتاج السينمائي العربي. لا شكّ في أنهما تُشكّلان لحظة تأملية لا تقف عند حدود السينما فقط، لأنها قادرة على تجاوزها إلى الأدب والفكر والتأمّل والتحليل العلمي في السياسة والثقافة والفنون. لكنهما لن تكونا، بأي شكل من الأشكال، المنعطف الوحيد لتبدّل أحوال بعض السينما العربية. إنهما إضافة؟ هذا صحيح. إنهما لحظة تحوّل؟ هذا صحيح أيضاً. في السياسة والمجتمع، كما في الثقافة والسينما والآداب؟ هذا صحيح أيضاً وأيضاً. لكنهما بلغتا السينما التجديدية في لحظة بزوغ وعي معرفي وثقافي وفني أهمّ وأرقى لدى سينمائيين عرب شبان، يطمحون إلى إخراج السينما العربية من رتابتها وتقليديتها وتفاهتها وتهافتها على المبتذل والسطحي والفارغ. يطمحون أيضاً إلى تثبيت معنى الصورة في صناعة السينما، وإلى تفعيل حيويتها البصرية في اختراع أشكال متنوّعة لصناعة الأفلام.

على الرغم من هذا كلّه، هل يُمكن القول إن هذه النماذج (وغيرها أيضاً) قادرة، فعلياً ونقدياً، على وضع ملامح سينما عربية جديدة ـ تجديدية؟

غالب الظنّ أن لا، وإن بدا أن هناك بوادر لملامح كهذه فيها. مع أن الأفلام المذكورة (التي لا تختزل، بأي شكل من الأشكال، الأفلام كلّها المصنوعة في الأعوام القليلة الفائتة، والتي يُمكن الاعتماد عليها في قراءة الجديد والتجديديّ) قابلة لمنح المهتمّ بعض تلك الملامح والمعالم: الاشتغال الإبداعي على مستوى الصورة، تصويراً ومونتاجاً وإضاءة ومفاهيم جمالية وإدارة تمثيل وأداءات تمثيلية أيضاً، كما على مستوى الموضوع ومعالجته ومساراته. بالنسبة إلى هذين الأخيرين (الجديد والتجديدي)، فإن معظم المخرجين السينمائيين العرب الشبان يسعون، كلّ واحد منهم بطريقته الخاصّة، إلى اختراق الواقع وتفكيكه وتحليله بصرياً وليس تنظيرياً، وإلى إعادة قراءته، سواء كان واقعاً عاماً (التحوّلات الحاصلة مؤخّراً) أو خاصّاً جداً (حالات إنسانية. حكايات فردية. علاقات ملتبسة، أو معلّقة). صناعة الفيلم الوثائقي اللبناني الجديد مثلاً (إليان الراهب، سيمون الهبر، نديم مشلاوي، رامي نيحاوي، أحمد غصين، زينة صفير، داليا فتح الله، هادي زكّاك، جوانا حاجي توما وخليل جريج، غسان سلهب أيضاً، ومحمد سويد أساساً، وغيرهم) جزءٌ أساسي وفاعل في عملية تطوير اللغة السينمائية في صناعة الصورة، وإعادة بلورة المشهد الحياتي في أطر سينمائية بحتة. جزءٌ أساسيّ من القول والبوح والتعريف والمواجهة والمعاينة. جزءٌ أساسيّ من الاعتراف بمعنى الصورة في صناعة الفيلم السينمائي، وبأهمية اختراق الجماعة وتفتيتها لمصلحة الفرد وانفعالاته وأقواله وذكرياته وحالاته.

 

المصدر: السفير