عندما تحتج الصحف

عندما تحتج الصحف

إبّان الانتداب الفرنسي على سورية كثيراً ما اضطر الرقيب الصحفي أن يحذف ما لا يراه مناسباً مما كان يُكتب في الصحف الوطنية آنذاك، وكانت الصحف ترد بترك مساحات فارغة مكان المواد المحذوفة والاكتفاء بكتابة عبارة «حُذف بمعرفة الرقابة»

ومع اتساع رقعة المساحات البيضاء تُرك المجال مفتوحاً لتأويل ما يمكن أن يكون قد حُذف، وهو ما أحدث آثراً فاق قوة الكلمات المحذوفة، ما أرغم المفوّض السامي أن يطلب من وزارة الداخلية أن تقوم الإدارة الصحفية بمنع الصحف من الإلتجاء إلى ذلك بقوله : « إنّ بعض جرائد دمشق كثيراً ما تنشر أخباراً ترمي إلى غايات خفيّة ما يجبر المراقب على حذفها، فيؤدي إلى وجود بياض كثير في الجريدة، ولما كان ذلك يفسح مجالاً للأوهام والريب، طُلب أن تُمنع الجرائد التي يكون فيها بياض كثير من الظهور ، أو يجبر أصحابها على إملاء ذلك البياض».

بالرغم مما تدلل عليه قصة «المساحات البيضاء» في تاريخ الصحافة السورية من تضييق الخناق الذي مارسته الرقابة الفرنسية على الصحف الوطنية، إلا أنها تقدم في الوقت ذاته نموذجاً متقدماً للاحتجاج الذي كان يلجأ له الصحفيون السوريون للدفاع عن حقهم في حرية التعبير، لم يكن هذا الأمر هبةً من الاحتلال الفرنسي الحامي للحريات ومبادئ الديمقراطية بقدر ما كان إرثاً وطنياً ومهنياً للصحف السورية التي كانت تلعب دوراً محورياً في حياة السوريين آنذاك.  واليوم، ومن دون وضع إشارات مساواة فيما يتعلق بهوية الرقيب وجهة الرقابة، وإنما فكرتها،  يلاحظ أي مطّلع على الصحف السورية ألا وجود لمساحات بيضاء فارغة، رغم وجود استثناءات قليلة في تجربة بعض صحف أحزاب «الجبهة الوطنية التقدمية» في فترة التسعينيات،  لكن ذلك لا يعني مطلقاً أنه لا يوجد لدى الصحفيين السوريين ما يحتجون ضده، أو أن الرقباء السوررين لا يحذفون شيئاً، بل يعني أن سلطة الرقيب أقوى من أن تواجه بأي شكل من أشكال الاحتجاج، وأن ما حدث حقاً هو : «الإجبار على إملاء الفراغ بأي شيء كان..» .

إن كان تشكل الحركة الاحتجاجية في سورية وخروج التظاهرات بدايةً منذ سنتين حدثاً استثنائياً، فإن مظاهر الاحتجاج الصحفي -من داخل المؤسسات الصحفية السورية- ما تزال حتى هذه اللحظة خجولة جداً. إذ لم يحدث قط أن احتجبت الصحف السورية عن الصدور ، كما حدث في مصر مثلاً، أو أن نظّم الصحفيون لقضايا داخلية وليس استنكاراً لتصرف خارجي ما، اعتصاماً أو وقفات احتجاجية على غرار ما قامت به بعض الحركات النقابية في سورية كنقابات المهندسين والأطباء والمحامين.

كما أن الحديث عن مشكلات حقوقية أو نقابية متعلقة  بتعديل قانون الإعلام الأخير أو قانون المطبوعات، أو  رفع شعارات مطلبية تتعلق بوضع الصحفيين وحقوقهم داخل اتحاد الصحفيين يُعدّ كلاماً طوباوياً وغير ذي جدوى  بالنسبة للكثير من الصحفيين والكتاب السوريين، الذين يرون أن مشكلة الصحافة السورية أكبر بكثير من نص دستوري أو مطلب نقابي. 

حيث أن جميع الخطوات والمبادرات  التي ُطرحت وُنفّذت للاحتجاج على واقع الإعلام قدمت كبدائل للمؤسسات الصحفية والإعلامية الحالية، منطلقة من افتراض استحالة إحداث تغيير من داخل المؤسسات الإعلامية السورية.

يبدو  التركيز  في المواجهات الإعلامية منصباً اليوم على وسائل الإعلام المرئية  والوسائل الإذاعية في بعض الحالات (شـام أف أم)، في حين يغيب تقريباً ذكر الصحف والجرائد السورية الرسمية ( ثـورة، تشريـن، بعـث) أو الخـاصـة (الـوطـن، بلـدنـا). ربما يعود ذلك إلى كون تلك الصحف توزّع محلياً بحيث يبقى نطاق تأثيرها ضيقاً، أو أنه المقصود هنا- _ وهو المرجح _ أن الحال الذي وصلت إليه الصحف السورية بتأثير الرقابة والرقابة الذاتية جعلها خارج أي حساب. فالصحف الرسمية السورية التي لم تستطع هذه المرة الاستمرار بسياسية التعتيم والتجاهل التي كانت تنتهجها سابقاً، ما تزال حتى هذه اللحظة متمسكةً بلغة خشبية إقصائية لا تزول من قبيل (المنظومة العدوانية، المخططات الإجرامية، الجامعة المنقلبة إلى العبرية، قوى الشر والبغي والعدوان)،  وبالرغم من أنها تتطرق أحياناً لقضايا هامة وشائكة فيما يتعلق بالشأن السوري _ وإن كانت من وجهة نظر رسمية _ كالعقوبات الاقتصادية على سورية أو التطورات على الساحة الأمريكية و«الاسرائيلية»، إلا أن ركاكة الأسلوب الصحفي والابتعاد الشديد عن الموضوعية والغياب وغياب منطق حرية التعبير -وهي مسألة نسبية وليست مطلقة-  يحول تماماً دون وصول أي من تلك الأفكار إلى القراء.

بالتأكيد إن الفترة المقبلة  ستشهد نشأة العديد من الصحف والمؤسسات الإعلامية الجديدة، البعض منها سيبقى وآخر سيزول.. لذا يعد من المبكر محاولة تقييم تلك المبادرات والخطوات، خاصة وأن جماهيرية الصحف ومدى إقبال جمهور القراء عليها سيكون هو الحاسم في النهاية. ولربما لا يمكن الإجابة عن تساؤل إن كان من الصواب الاعتقاد باستحالة التغيير من داخل المؤسسات الإعلامية السورية، خاصةً وأن البعد الإعلامي والصحفي لا يعدو كونه انعكاساً لواقع التخبط السياسي الذي تعيشه البلاد. إلا أنه وبالتأكيد سيكون انتصاراً حقيقياً أن يشتري القراء السوريون إحدى الجرائد الرسمية المحلية  ذات صباح، ليجدوا أن كل صفحاتها أمست بياضاً، أو في المقابل إمتلأت بالكلمات التي تاقوا طوال سنوات لقراءتها. أفليست الصحافة ذاتها في نهاية المطاف احتجاجاً ..؟؟