الإفريقية البيضاء
كانت ترفض أن توصف بالكاتبة البيضاء من جنوب إفريقيا، وتصر على أنها «الإفريقية البيضاء»، في تأكيد على انتمائها الروحي والنفسي لبلدها جنوب إفريقيا، وهو انتماء أكده انحيازها إلى جانب القضية العادلة لمواطنيها السود في نضالهم ضد نظام «الأبارتهيد» العنصري، الذي أطاحوه بعد مسيرة نضالية طويلة مثقلة بالعذابات والتضحيات.
هذا الانحياز لم يكن لدى ناديين غورديمير منحصراً في تعاطف معنوي، وإنما في انخراط فعلي في النضال مع رافضي العنصرية من السود والبيض، من خلال عضويتها في المؤتمر الوطني الإفريقي بقيادة نيلسون مانديلا، حيث رأت في هذا الأخير أكثر من مجرد قائد، فهو ملهم للنضال الوطني الأفريقي وللقضايا العادلة في القارة الإفريقية والعالم.
حين خرج مانديلا من السجن، حرص على أن تكون غورديمير بين أوائل من التقاهم، وكان هو نفسه أول من هنأها بفوزها بجائزة نوبل للآداب عام 1991، ففي ذلك الفوز اعتراف لا بطاقتها الإبداعية المشهود لها، وإنما أيضاً بالقضية العادلة التي كرست أدبها وحياتها من أجلها، أما هي نفسها فقد أهدت الجائزة إلى جنوب إفريقيا الوطن والشعب: "إلى جنوب إفريقيا كلها" هكذا قالت.
وكما في حال كل مبدع حقيقي، فإن الانغراس في بيئة جنوب إفريقيا الثرية انطوى على قيمة كونية كبرى، فالمحلية الصميمة الصادقة هي دائماً الطريق إلى العالمية، وليس العكس، يصبح الكاتب كونياً حين يكون وطنياً حقيقياً، فتلك الوطنية لا يمكن إلا أن تكون مفعمة بالحس الإنساني العالي.
للكتابة عندها أولوية، من دون أن يوقعها ذلك في تناقض مع موقفها السياسي المعروف، كأنها تعمل بنصيحة ألبير كامو الذي كانت مفتونة بأدبه وسيرته: "الشجاعة في الحياة والموهبة في العمل". ولعل هذا يفسر دعوتها في كتابها البحثي: "الكتابة والوجود" إلى أن يذهب الكاتب إلى مكان بعيد جداً، يتخطى كل القواعد المعتادة، فمهمته هي في التعبير عن الحقائق الخبيئة.
المرأة التسعينية التي أضاء أدبها ذاكرة جنوب إفريقيا وتاريخها الملحمي، رحلت بهدوء في بيتها، وسط أفراد عائلتها، بعيد شهور قليلة من رحيل ملهمها مانديلا. في سيرتهما معاً ما يجسد مأثرة الشعب جنوب الإفريقي، حين انتصر الانحياز الإنساني المرهف على نظام التفرقة البغيض، وللمفارقة الموجعة فإن الدرس البليغ الذي قدمه الشعب هناك، لم يصلنا بعد في الشرق العربي المنكوب، الذي يوغل في التشطّر والتشظي.
المصدر: التجديد العربي