«حياتي» لريتشارد فاغنر: ألف صفحة ونيّف لن تُقرأ إلا بعد الموت
كان ريتشارد فاغنر، بكل تأكيد، واحداً من كبار الموسيقيين الذين أنجبتهم الثقافة الألمانية في تاريخها. وهو في هذا الإطار كان واحداً من كبار مبدعي فن الأوبرا في العالم كله خلال القرن التاسع عشر. غير أن عقلاً مركباً ومتمرداً مثل عقل صاحب «لوهنغرين» و «أساطين الغناء»، ما كان في إمكانه أبداً أن يكتفي بأن يكون موسيقياً، مهما بلغت درجة إبداعه في هذا الفن.
كذلك ما كان في إمكانه أن يكتفي بأن يكتب نصوص الأوبرات التي لحّنها، وأشعارها. فهو، لأنه نال في حياته ثقافة رفيعة، وصادق كبار الفلاسفة والروائيين والمفكرين، وكان صاحب أفكار ثورية في السياسة والفكر، كما في الموسيقى والشعر، ولأنه، لاحقاً، سيصبح من أقرب المقربين إلى الفيلسوف نيتشه - قبل أن تحدث القطيعة الشهيرة بينهما - من ناحية، ومن ناحية أخرى إلى الحاكم المتنور لودفيغ، ملك بافاريا، كان في مقدوره أن يتطلع دائماً حتى إلى ما يتجاوز قدراته الآنية، بغية بناء قدرات مستقبلية يؤهله إليها استعداده.
ومن هنا نجد له، إلى مؤلفاته الموسيقية ذات المستوى الاستثنائي غالباً، وربما في شكل حصري في مجال الأعمال الأوبرالية التي كان سيّدها ألمانياً وعالمياً من دون منازع، مؤلفات فكرية وكتباً في السياسة والنضال السياسي الثوري حتى، في نظريات الفن، استقى معظمها من تجاربه الفكرية الشخصية، وبعضها من غوصه العميق في دراسة التراث الشعبي الجرماني، وبعضها الثالث من نضالاته السياسية التقدمية التي ضحى في سبيلها بالكثير مشاركاً في غير ثورة وتحرك أواسط القرن الذي عاش فيه على المستويين الألماني والأوروبي. غير أن أياً من تلك الأعمال، ولا حتى الأوبرات والقطع الموسيقية الأقل استعراضيّةً التي وضعها فاغنر، لم يتمكن من أن ينهل في العمق من تجربته الحياتية الشخصية، إذ إن فاغنر الذي صدرت عشرات الكتب والدراسات تسرد فصول حياته وعلاقاته وانعطافاته الحميمة إلى تقلباته في تلك العلاقات، كان، هو، خلال مرحلة متأخرة من حياته، يميل إلى التكتم حول الكثير من تفاصيل تلك الحياة، وكأنه تبعاً لعادة جرمانية عريقة، كان يريد أن يقول إن المرء إنما هو أفكاره وإنجازاته، أما خصائص حياته فليست على تلك الأهمية التي قد تعتقدها أقوام أخرى.
ومع هذا حدث لريتشارد فاغنر، ذات حقبة من عمره أن أحس، أخيراً، بالحاجة إلى أن يكتب عن نفسه، وأن يؤرخ لحياته. وكان ذلك بدءاً من العام الذي بلغ فيه الخامسة والسبعين من عمره شاعراً أن سنواته باتت معدودة، وأن عليه هو أن يقوم بالمهمة، خوفاً من أن يقوم بها آخرون قد يشوهونها. وعلى هذا النحو، صدر في عام 1870، الجزء الأول من سلسلة من أربعة مجلدات ضخمة حملت كلها عنوان «حياتي» وتوقيع ريتشارد فاغنر. وقد تواصل نشر بقية الأجزاء حتى عام 1874، بحيث اكتمل الكتاب الذي سيقال لاحقاً على أية حال، إن فاغنر كان بدأ الاشتغال عليه، بتكتم، منذ ما قبل ذلك بأعوام. إذاً، وكعادته في تضخيم كل شيء انطلاقاً من حس عظيم كان مواكباً لشخصيته دائماً، لم يكتف فاغنر بأن يسرد حياته في كتاب، بل جعلها مسرودة في أربعة كتب، فمن يمكنه أن يزايد عليه في هذا المجال؟
إن فاغنر، منذ تقديمه الجزء الأول من كتاب حياته الضخم هذا، يعلمنا بأنه إنما استند في صياغته إلى عدد كبير من الصفحات والمدونات التي كان بدأ يخطها في شكل منتظم منذ عام 1835، أي منذ كان في الثانية والعشرين من عمره، هو الذي منذ ذلك الوقت المبكر كان يعلم علم اليقين أنه سيصبح «شيئاً ما» ويصبح اسمه ملء السمع والبصر عما قريب - كما يقول لنا نيتشه في كتابة لاحقة عن فاغنر. أما هذا الأخير نفسه فإنه يفيدنا، أمام دهشة كثر، بأن أول نص في السيرة الذاتية كتبه يعود إلى عام 1842 حين لم يكن قد صار، بعد، المؤلف الموسيقي الكبير الذي نعرف. ومع هذا نراه يرسم في ذلك النص الأولي صورة «لمساره المهني العظيم». والحال أن هذا النص والمدونات التي سبقته لم تكن أول ما دبجه في هذا المجال، صاحب «بارسيفال»، إذ إنه كان ومنذ سن المراهقة يُحمّل كل الرسائل التي يبعث بها إلى آخرين، فقرات عن حياته وأفكاره، ناهيك بفقرات أخرى كان يكتبها هنا وهناك. والواقع أن فاغنر عاد واستعمل تلك النصوص كلها في «حياتي».
غير أن ما بات من الضروري قوله الآن هو أن فاغنر، لم يكن يريد لـ «حياتي» أن يطبع وينتشر بين عموم القراء إلا بعد موته. من هنا، فإن الطبعة الأولى للأجزاء الأربعة، والتي نحن في صددها هنا، إنما صدرت أول الأمر في مدينة بال السويسرية، في طبعة على حساب المؤلف، محدودة النسخ: 18 نسخة لا أكثر. لقد تعمّد فاغنر هذا لمجرد أنه كان يخشى للمخطوطة الأصلية أن تضيع، فأصدر تلك الطبعة الأولى لدى الناشر السويسري الذي جعله يقسم على أن يحتفظ بالحكاية كلها سراً متعهداً بألا يصدر طبعة عامة إلا بعد رحيل الموسيقي. وهذا ما حدث بالفعل، إذ إن النسخ المطبوعة احتفظ بها في خزائن العائلة لتصدر مكتملة بالفعل بعد موت فاغنر.
مهما يكن من أمر، فإن هذا الاختيار لم يكن عن تعمد للغموض، ولا عن نزوة... بل لأن فاغنر، إنما كان يرغب في أن يُقرأ كتابه خارج إطار وجوده الشخصي والقدرة على مراجعته فيه، كذلك كان يريد أن يحترم الأشخاص الذين يذكرهم، بالأسماء في أجزاء كتابه، لأنه لم يكن ليريد أن يساء فهم ما يقوله عنهم، أو الإساءة إلى سمعتهم، في حياته أو حياتهم. والمهم، في هذا كله هو أن فاغنر يروي هنا أحداث حياته بمقدار كبير من البساطة والوضوح، في صفحات قد يخيل للمرء أمام بساطتها وهدوئها، أن من المستحيل أن يكون فاغنر كاتبها، وهو الذي اتسمت حياته دائماً بالصخب، وأفكاره بالتعقيد وعواطفه بالجموح. إذ، من أين له الآن، كل هذه الرزانة، بل كل هذه الموضوعية التي يمكن أن تُلحظ في الكتاب جزءاً بعد جزء وفصلاً بعد فصل، حيث أسلوبيا، يتخلى فاغنر هنا، كما يقول كاتبو سيرة حياته من الذين اعتمدوا على هذه السيرة الذاتية، عن كل تجريد، ليبدو على التوالي جاداً، مقداماً، متأملاً وربما حتى طيّباً مع الآخرين... واصلاً إلى حد التماهي التام مع الأحداث الكثيرة التي يروي لنا كيف مرت به وكيف مر بها، وظل على رغمها، حياً وحيوياً ومبدعاً خلاقاً. ففاغنر، وكما نعرف، لم يعش حياة مستقيمة محترمة دائماً، هو الذي - كما يقول بنفسه - كان يحدث له أن يكون اليوم قائد أوركسترا بائساً في مسرح ريفي، ليصبح غداً موسيقياً يكاد يموت من الجوع في باريس... ثم يجد نفسه معلماً في كاتدرائية في درسدن قبل أن يتحول بسرعة إلى موسيقي وقائد أوركسترالي في بلاط ملك ساكسونيا، ولئن كنا نراه صديقاً للأمراء والملوك حيناً، فإننا لن ندهش إن رأيناه في اليوم التالي منفياً مشرداً... يفلت من الانتحار في اللحظة الأخيرة، ليجد نفسه سيداً محترماً في بلاط الأمير. ثم ينتقل من حياة عزلة مرعبة في تريبخن، إلى وضعية مهندس يقوم ببناء مسرح في بايروت، وقد عاد من جديد ليصبح خليل الملوك والأمراء ونجييهم.
إن هذا كله يرويه ريتشارد فاغنر (1813 - 1883) في هذا الكتاب الضخم... ولكن الأهم منه أنه يروي لنا في الكتاب حكاية ولادة كل عمل من أعماله، لا سيما الكبيرة منها، بحيث إنه، منذ صدور الكتاب وانتشاره، لم يعد من المنطقي الحديث عن أوبرات فاغنر وعن موسيقاه لأي باحث لم يقم بقراءة «حياتي» قبل أن يشرع في أية كتابة عن صاحب «حياتي».