من دمشق.. إلى دمشق
نور حسن نور حسن

من دمشق.. إلى دمشق

تغازل عيناه وجوه المارّة، والزيزفون يصارع ذليلاً على اعتلاء عرش أنفاسه، بينما تداعب سبّابته رماداً أرجوانياً طافحاً بشيءٍ ما

هكذا بات يقضي جلّ يومه بعد أن تسنّى له البقاء على قيد الحياة مراراً:

فقذيفة الهاون التي دكت بيته نسيت أن تنفجر بوجوده ...

وحين أصابته الرصاصات الثلاث تناساه الموت أيضاً، في الوقت الذي كان يحصد الرؤوس حول بيته في المخيم.

هكذا في إحدى حدائق دمشق، اشترى علبة سجائر وعلى كرسي خشبي قبع تحت شجرة استأنست بالسماء والضوء والدفء.

يعرض وجهه كلوحة تناوب على رسمها عامان من التعب، والألم الذي أحدثته طلقة قناص فقدت صوابها مصادفةً، ومداعبةٌ من دبابة مضطجعة إلى يمين الطريق. وكانت الأسعار هي الفنان الذي وقعها.. مضى عامان.. ومضى هو بها، من دمشق قيل فيها:

«يلعن أبو هالحالة»

إلى دمشقٍ يُقال فيها:

«مشان الله أرجعي»

من دمشقٍ كان فيها ظهور المسؤولين على التلفاز يسبب له الصداع، إلى دمشقٍ شُلَّ فيها لسان الحق وبات الصداع أشد.

من دمشقٍ كان يُسمع فيها: «يا لطيف شو عم يصير بالدنيا»

إلى دمشقٍ صار يُسمع فيها: «يا لطيف بيتي»

من دمشقٍ كان يحبّها

إلى دمشقٍ أمست تستميتُ في حبّه، على شاشات التلفزة.

من دمشق، إلى دمشق.. ما زال يمضي، ربما لأنه ندم على بقائه حياً دون قصد، فقذيفة الهاون التي دكت بيته، وأودت بحياة عائلته كاملة نسيته، أما الزيزفون فقد ازداد ذُلّاً.

مازال يسرح بخياله، ومضى بيده إلى جيب بنطاله المخملي المصنَّع على طراز التسعينيات لعلها تهتدي إلى سيجارة تداعب سبابته رمادها، هو الذي لم يعتد التدخين  سابقاً، صارينتشي برائحة الهزيمة المكلّلة باستسلام يرضع الأمل.

 وتأكد اليقين بقرارة نفسه أنْ يعلن هزيمة الزيزفون.. عندما باغته فجأة وجود طفلة لها بضع سنوات من العمر، تركض أمامه مسرعةً.. تجري بثياب ثقلت بالتراب الملطخ بالحياة، شعرٌ مربوط على أشدّه، وشيء غريبٌ لم يعرفه، تأملها جيداً فبدت له وكأنها تبحث عن شيءٍ فُقِدَ هنا أوهناك، وأطال تأمله في عينيها وابتسامتها التي تظهر فراغاً بين أسنانها ونتوئات صغيرة تؤكد محاولة أسنانها الدائمة على الحضور..

أخرجه حضور هذه الصغيرة المفاجئ من غيبوبته قليلاً..وجعلته يتأمل من حوله..على يمينه  شاب يترنح في نشوة الحياة مع شابة تقربه في العمر وتقصره طولا بعشرين سنتيمتراً، وخلفه تنبعث ضحكة رضيع تداعبه أمه بنظرات حنونة.

ومن حيث لا يدري تنبه مرة أخرى بوجود شخص قصير أمامه، كانت الطفلة ذاتها التي تأملها منذ قليل وابتسامة مشبعة بالحياة مازالت متشبثة بشفتيها سألته:

«عمو... عمو شفت ماما شي...؟  كانت هون»  وأشارت إلى المقعد المقابل لمقعده.

فرد عليها:«لا عمو».

أجابته: «أممم باي»  وانطلقت مسرعة خلف أمها التي ظهرت من بعيد وابتسامها مازالت معلقة بشفتيها الغضتين..

أطال النظر فيها، وهي تبتعد، بفم مفتوح دهشة، وتفاجأ بنفسه متلبساً بأمل أصابه على حين غرة.

وأكملت  نبضات قلبه:

حان الوقت لانتصار الزيزفون..! ونهض ومضى خارج الحديقة..رامياً علبة السجائر التي اشتراها حديثاً ومحدثاً نفسه: أحبك دمشقي، وسأظل أحبك..!