مسرحيته الأخيرة تبصر النور قريباً: نضال سيجري كما لو أنّه هنا
 علي وجيه علي وجيه

مسرحيته الأخيرة تبصر النور قريباً: نضال سيجري كما لو أنّه هنا

على خشبة «مسرح الحمراء» الدمشقي، اجتمع أصدقاؤه وعائلته ورفاقه إحياءً لذكراه الأولى. خلال الاحتفالية، أعلن عن مهرجان يحمل اسمه سينطلق في أيلول (سبتمبر) المقبل ومشاريع عدة؛ من بينها العمل على مسرحيته «عطيل» التي تقدّم قراءة تليق بالجنون السوري

أول من أمس، دونّا مرور عام على غياب نضال سيجري (28 أيار/ مايو 1965 ــ 11 تموز/ يوليو 2013) في «مسرح الحمراء» في دمشق. البلاد مرّت في تحوّلات لا تُصدّق، وحتى المشهد الفنّي لم يعد كالسابق. بالتأكيد، كان نضال ليقول شيئاً في هذا الشأن. كان متابعاً وفياً لتغيّرات السياسة أكثر من جديد الفن. آلمته مأساة وطنه أكثر من المرض. «سوريا يا فواز» قال لأخيه بعد غيبوبة طويلة، وهو يشدّ على يده ثمّ أغمض عينيه مجدداً.

وصفة «الحب هو الخلاص» التي وضعها لتخرج «أمّنا العظيمة» من أزمتها، ظلّت حاضرةً في أدبياته حتى النهاية. بكل بساطة، كان مواطناً قبل أيّ صفة أخرى، متحرّراً من تصنيفات غرامشي وسارتر وفيبر الجاهزة للمثقف، عابراً المصطلحات والاهتمامات وحتى الأنواع الفنيّة. تعامل مع الناس كشركاء في الوطن وليس كجمهور كما يفعل الكثير من زملائه، لهذا كان صديق الجميع، وقاسماً مشتركاً بين السوريين المنقسمين الذين رثوه بنفس الحزن. في بداية الأحداث، حاول تهدئة الأمور على الأرض، ونقل مطالب المتظاهرين إلى مستويات عليا. وليس سرّاً أنّه صارح رئيس الجمهورية بملفات فساد ثقيلة. كأيّ مواطن سوري أيضاً، كافح نضال كثيراً عبر السنين. الأعمال التي زاولها خلال دراسته في «المعهد العالي للفنون المسرحية» تتكلّم عنه. غرفته القديمة في باب توما ماثلة إلى الآن. إخلاصه النادر للمسرح يقول إنّه حافظ على طهارة الفنّان الأولى، حتى إنّه أطلق اسم «وليم» على ابنه البكر تيمّناً بصاحب المآسي الكبرى.

كان تلميذ فوّاز الساجر وممدوح عدوان ممثّلاً من معدن نفيس، ومخرجاً مهووساً بالتفاصيل والتكامل الفنّي. نعم، إنّه عشق ووله حقيقي. هو قادر على المواصلة بعد اثنتي عشرة ساعة من البروفات، موّلداً طاقة كافية للجميع. يستمتع بالبحث حتى الإرهاق، والاستغراق حتى النخاع، لبلوغ قاع الشخصية والتماهي معها وتلوينها بتنويعاته الساخرة. أداؤه الخلّاب مع فايز قزق في «حمّام بغدادي» (إخراج جواد الأسدي) نموذج يدرّس عن ذلك. وسط الموت والاحتلال، كان موّالاً عراقياً على هيئة سائق شاحنة، مغرقاً في الحزن والتهكّم المرير على حدّ سواء.

لم يمانع مخرج «طعم الليمون» السفر إلى أيّ بقعة سوريّة لتدريب هواة المسرح. الوقت لم يسعفه لإقامة ورشات في كل المحافظات كما كان يخطّط. المسرح الجامعي في اللاذقية، أحد أمكنته المفضّلة، شاهد حيّ على أسلوبه في العمل. خلال ساعتين ونصف ساعة، كان يقطع الطريق من دمشق إلى السكن الجامعي في اللاذقية، ليدخل في البروفة مباشرةً، قبل أن يعود إلى العاصمة للحاق بموعد تصوير ربّما. لقد دفع ثمن هذا الإيقاع اللاهث في حادث سير مأسوي كاد أن يودي به. انقلبت السيّارة، فعمد نضال الى تصويرها والتندّر على الحادث مع أصدقائه. كان مهووساً بالتفاصيل إلى درجة الكمال، مؤمناً بإمكانية تنفيذ أيّ فكرة مجنونة على الخشبة. اعتاد نقل وصفة الحب نفسها إلى الكواليس، فكان يسبر نفس الممثّل ويطّلع على حياته ليخرج منه أفضل ما فيه. شخصيات من لحم ودم يفردها نضال على الخشبة لتنعجن بها. النتائج تثبت نجاعة الأسلوب، وخصوصاً في «نيغاتيف» و«صدى» (رؤية جديدة لعرض صديقه عبد المنعم عمايري). «عطيل» هو المشروع الذي لم يتمكّن من تحقيقه. رؤية معاصرة للنص الشكسبيري تتيح تقديم قراءة تليق بالجنون السوري. رقص صالونات ممزوجاً بالرواية الأصلية مع شخصيات جديدة تخلق مساحات للعب بالطريقة التي يفضّلها. المخرج المسرحي هاشم غزال يتابع العمل على المشروع «لتأدية الأمانة» كما يقول لـ«الأخبار»، مستعيناً بجلسات العمل مع نضال والأوراق التي كتبها بخطّ يده وبحّة توجيهاته الأخيرة. يكشف غزال أيضاً عن «مهرجان نضال سيجري المسرحي الأول» المخطّط إطلاقه في الصالة التي تحمل اسم نضال في دار الثقافة في اللاذقية في أوائل أيلول (سبتمبر) المقبل. 5 عروض من اللاذقية، منها «صدى» الذي أخرجه و«ارتجالات لنضال سيجري» الذي قدّم في أربعين رحيله.

اتكاءً على هذا المكنون الغني والنضج الفني، أحسن التعامل مع التلفزيون. لم يدر ظهره للشهرة والبزنس، كما لم يغرق فيهما. استغلّ قدرته على التماهي مع مختلف الأدوار والكاركتيرات للصعود وفرض نفسه في خيارات الصناعة. مع الليث حجّو في «الانتظار» (2006)، لعب كاراكتير الشرير «الشاويش» الذي لا يُنسى. ومع المخرج نفسه، توّج كاراكتيراته بـ«أسعد خرشوف» الذي بات من الكلاسيكيّات العربيّة. هكذا، ستنشأ شراكة فنيّة بين نضال سيجري كتعاون فني والليث حجّو كمخرج، أثمرت مسلسلات هي «الخربة» (2011) و«أرواح عارية» (2012) و«سنعود بعد قليل» (2013)، في حين انعكست الصفات في فيلمه التلفزيوني الوحيد «طعم الليمون» (2011). «أسعد خرشوف» هو ذاته «نضال سيجري» إنسانياً. قلب أبيض يحبّ الحياة والآخرين، وروح تنشر الفرح والحب. هذا سرّ الحضور البهيّ والأداء الاستثنائي. نضال صار أسعد على الرغم من علمه المسبق بمدى الأذى الصحي من تصوير الجزء الثاني من «ضيعة ضايعة». صوته كان الثمن.

في السينما، لم يُستغل نضال الممثّل كما ينبغي. بقي حضوره في إطار التجريب واكتشاف الذات. في «خارج التغطية» (2007، 100 دقيقة ـــ إنتاج المؤسسة العامة للسينما) لعبد اللطيف عبد الحميد، حضر بدور المعتقل السياسي، في وقت لم يكن فيه الحديث عن ذلك شائعاً في الأعمال السوريّة. نضال المخرج في «طعم الليمون» (نص رافي وهبي عن فكرة لحاتم علي وإنتاج «المؤسسة العامة للإنتاج التلفزيوني والإذاعي») قدّم «تنويعاً على مقام العشق والشغف» حسب وصفه. صحيح أنّه لم يحقّق اختراقاً تقنياً أو أسلوبياً، إلا أنّه نجح في نقل طريقته في إدارة الممثّل من المسرح إلى اللوكيشن، لتظهر نماذجه الإنسانيّة شفافةً بمنتهى الحساسية. قبل اشتداد المرض، كان يستعد لتجربته الإخراجية التالية بفيلم قصير مع «المؤسسة العامة للسينما» يحمل اسم «موت طائش». وهل أكثر طيشاً من موت يختار روحاً مثله؟

هو نضال الإيقاع المضبوط الذي يملك وقتاً لكل شيء. واظب على دعم التجارب المستقلة والمشاركة بها، حتى لو كان بعضها أقل سويّة من اللازم. ابن حيّ القلعة اللاذقاني أحبّ الإقامة في فندق «زنوبيا» عند وجوده هناك. كان عاشقاً للمدينة ومتذمّراً من فقدانها هوّيتها شيئاً فشيئاً. اعتاد تمويه وجهه بوشاح، والتسكّع في ما تبقّى من الأزقّة القديمة. طاولة بسيطة وكرسيّ عند الشاطئ كفيلان بتهريبه من التزامات كثيرة. هنا الحكي للبحر بمعنى «الفضفضة» طقس لا بدّ منه. صديقه المصوّر أنس إسماعيل يسرد تفاصيل مؤثّرة عن ذلك.

اليوم، يُذكَر نضال كما لو أنّه «الآن وهنا». ولداه وليم (9 سنوات) وآدم (7 سنوات) يشربان الحليب صباحاً كالعادة في بيت العائلة في الجسر الأبيض. التفاصيل اليومية نفسها أيضاً. اليوغا والسباحة تحرّضان الذاكرة، وحب وليم للقراءة مستمدّ من أبيه الذي كان يقرأ «تاريخ سوريا المعاصر» لكمال ديب قبل أن يغيب. «نتعامل كما لو أنّه جالس في الغرفة المجاورة»، تقول زوجته سندس برهوم منهيةً حديثاً طويلاً عنه.

 

هذه الليلة غافية

السطور التالية من قصّة «غيوم زكريا» التي كتبتها زوجته سندس برهوم، ونُشرَت في الذكرى السنوية الأولى لرحيل نضال سيجري: «اختلس النظر إلى الساعة المثبّتة على باب خزانته، غمزته عقاربها وهي تتكئ على الثانية بعد منتصف الليل، ابتسمت له متواطئة مع نواياه باللعب. شعر بأنه يستطيع أن يضغط بأمان، بدون أن تتاح لها إمكانية الهرب، فشياطين الليل تحرس بابه ملوّحة بمناجل حادة وأحياء فارغة وثرثرات وطرقات لا تنتهي ببيت. إن خرجت فلن يحميها ياسمين الشام وهواؤها، فالأرصفة موحشة والأبواب مقفلة وعيون ملائكة الله هذه الليلة غافية». الشهور الستة الأخيرة كانت قاسية على نضال. كان لا بدّ من إشغاله وتمضية الوقت بشكل مسلّ وممتع، لتخفيف الألم الذي، في لحظات، لم تعد تنفع معه مسكّنات. الكتابة وإطلاع نضال على ما أنجزته كان جزءاً من ذلك. خصوصية هذه القصة أنّ إنهاءها توافق مع الوقت المتبقي لنضال، وساعات كتابتها لم تتجاوز ساعات نومه القليلة. كانت ردود فعله هي الأمر الأكثر إمتاعاً بعد أن يستيقظ ويبدي رأيه في ما كتبت. «وعيون ملائكة الله هذه الليلة غافية» هي الجملة التي أضافها نضال للفقرة، والنص عموماً فيه عبارات وكلمات منه.

 

الحب هو الحل يا أولاد أمّي

كما كان نضال سيجري (الصورة) خفيفاً مفعماً بالحب، كذلك حرصت زوجته سندس برهوم أن تكون الاحتفالية التي احتضنها «مسرح الحمراء» الدمشقي أول من أمس بدعوة من «مديرية المسارح والموسيقى». برهوم أعدّت فوتومونتاجاً قصيراً من أعماله المسرحية والتلفزيونية بعنوان «الحب والخلاص» في استلهام من وصفة نضال الشهيرة: «الحب هو الخلاص. الحب هو الحل يا أولاد أمي، الحب هو الحل يا وطني». تلاه عزف حي على العود والبزق لدقائق، قبل أن يُوزع كتاب «غيوم زكريا» (دار بيلمان) المهدى لروحه، وهو قصّة حب كتبتها برهوم خلال الأشهر الستة الأخيرة من حياة الراحل الذي وضع ملاحظاته وأضاف اقتراحاته عليها (اقرأ جزءاً من القصة على موقعنا). رافق ذلك معرض صور «بورتريه لنضال سيجري» لصديقه المصوّر أنس إسماعيل، ضمّ صوراً تنشر للمرّة الأولى للفنان الراحل.

هكذا، حضر حشد من الأصدقاء والفنانين والجمهور الذي أحبّ نضال لفنّه وروحه وقربه. صفحة المناسبة على فايسبوك امتلأت بتأكيدات الحضور وكلمات الاشتياق وذكريات أصحابها مع «أسعد خرشوف». سندس برهوم خاطبت زوجها: «نضال، واليوم أيضاً يسجّل الزمن اقترابك رغم طول المسافات». الفنّانة أمل عرفة كتبت: «فتّح عيونك نتفة يا نضال، وشوف قديه الدنيا فاقدتلك برفقاتك بولادك ببلدك بناسها وهواها وفنها كل شي فاقدلك. بس شايفينك وحاسّين فيك بروحك الحاضرة حوالينا و بسندس الغالية. نضال لسّاتك الفَرح بحياتي ما غص إلا بغيابك.. ومارح تغيب».

رفاق المسرح عبّروا عن ألمهم لغياب عاشق الخشبة الأوّل. ها هو فرحان خليل يقول: «نضال، خشبة المسرح الحضن الكبير الذي ضمّنا جميعاً، ستبقى تبتسم لك رغم هذا القهر. بئس من يحارب المسرح، وبئس من يقف ضد المسرحيين. نضال، أنت أكثر من قلب». الممثّل يوسف المقبل ذكّره بحادثة قديمة: «كنّا معاً في القاهرة عام 1994، حيث شاركنا في مسرحية «سفربرلك» ولعبت يومها شخصية «صطوف»، وكانت من الشخصيات الجميلة التي لعبتها على المسرح، ويومها رشّحت لجائزة أفضل ممثل. لكن السياسة حرمتك الجائزة». الصحافي ماهر منصور وجّه دعوة للجميع: «دعوة للمحتفين بالذكرى السنوية لرحيل نضال... نضالنا: إنّ تقديراً حقيقياً لنضال سيجري، يتطلب تقديم قراءة هادئة عن تجربته الفنية، بوصفها التجربة - النموذج، لمن عاش الفن ولم يعش على الفن». لم يُسجّ جسد نضال سيجري على خشبة المسرح كما حدث في اللاذقية قبل عام، لكن شعرنا بروحه تحوم في المكان، فهو معبده المفضّل.

 

المصدر: الأخبار