«علم الجمال» لهيغل: مسك الفن وروعة الأدب خاتمة للفلسفة

«علم الجمال» لهيغل: مسك الفن وروعة الأدب خاتمة للفلسفة

«الجماليات نشاط نعتبره، من وجهة نظرنا، واحداً من أهم الأنشطة التي تطرح نفسها على العلم. فالحال أنه بالنسبة الى الفن، لا يقوم الأمر على وجود مجرد لعبة مفيدة أو ممتعة، بل ان الأمر يقوم في تحرير الروح من المحتوى والشكل المرتبطين بالغائية، يقوم الأمر في حضور المطلق في المحسوس والحقيقي، في مصالحته مع هذا وذاك، وفي الوصول الى تفتّح الحقيقة التي لا يمكن لتاريخها الطبيعي أن يستنفد جوهرها، انما نراها تعبر عن نفسها في التاريخ الكوني الشامل حيث يمكننا أن نعثر على أجمل وأرفع المكافآت التي يمكننا الحصول عليها في مقابل الاشغال الشاقة التي نؤديها في مجال الواقع، والجهود المضنية التي نبذلها في سبيل المعرفة».

قد تكون هذه السطور معقدة بعض الشيء بالنسبة الى القارئ الذي يطالعها في غير سياقها، لكنها، إذ بها يختتم الفيلسوف الألماني الكبير هيغل، سفره الضخم «الجماليات» (أو «الاستطيقا» أو «علم الجمال» بحسب الترجمات العربية)، تتخذ كل دلالتها. وهي بهذه الدلالة تمكنت من أن تشكل فتحا أساسياً في عالم دراسة الفن والتأريخ له، في الفكر الحديث.

ولا بد هنا من التأكيد مع المفكر الفرنسي الراحل فرانسوا شاتليه، أحد كبار دارسي هيغل، الى أن الفكر الغربي لم يعرف، ومنذ ارسطو، عملاً له مثل هذه الشمولية والدقة والنباهة في محاولة تفسير المسألة الفنية، بل ان شاتليه وغيره كثر، يرون، عن حق، ان عمل ارسطو وخصوصاً في كتابه «الشعر» لا يمكن أن يضاهى بعمل هيغل الأساسي هذا. وليسوا بعيدين من الحق أولئك الذين رأوا في هذا الكتاب (الذي لم يصدره هيغل أبدا في حياته كما سوف نرى، ولم يجمعه حتى في مجلد أو مجلدات) أول «عمل، في تاريخ الثقافة الغربية، يحاول أن يربط بين التأمل حول النشاط الفني في علاقته مع الانجاز التاريخي للانسان، ككل، والتعريف بتصور الجميل في تجلياته المختلفة والمتنوعة، والتاريخ العام للفن».

والحقيقة ان هذا الكتاب الغني والمعقّد لغة وأسلوباً الى حدّ كبير، الذي أثرى الباحث العربي جورج طرابيشي المكتبة العربية، في الثمانينات، بترجمة دقيقة له - الى حد لا بأس به، أي الى الحد الذي يسمح به تطور استخدام المصطلحات المعاصرة في اللغة العربية والتقاء هذه اللغة بالقاموس الهيغلي الذي يعرف المختصون انه يتضمن استخدامات للمفردات والمصطلحات تختلف وفي شكل جذري احياناً عن استخداماتها القاموسية المعتادة -، وذلك في دزينة من الاجزاء المتتالية، صدرت عن «دار الطليعة» في بيروت، هو في الأساس سلسلة دروس ومحاضرات ألقاها الفيلسوف التنويري «المثالي» الكبير في جامعة برلين خلال السنوات الأخيرة من حياته، ونشرت بعد عام من رحيله في ثلاثة مجلدات ضخمة للمرة الأولى كيفما جمع. لكن الكتاب أعيد نشره وتحقيقه مرة ثانية في العام 1927 على ضوء مدونات هيغل ومخطوطاته وملاحظاته كما على ضوء العديد من الملاحظات التي كان سجلها بعض من تلامذة هيغل إما خلال استماعهم الى المحاضرات أو خلال مناقشات خاضوها مع استاذهم الكبير.

ولئن كرس هيغل هذه الصفحات الكثيرة التي يتألف منها الكتاب في مجموعه، للخوض في مسائل الفن والجمال، فإن من الواضح انه وضع فيه أيضاً كل خبرته الفلسفية، حيث ان هيغل ومنذ المقدمة يعرّف «علم الجمال» بوصفه النظرية الفلسفية للجميل وللفن، منبّها الى أن نظريته لا تتوخى تحديد مفاهيم وقواعد فنية، بل تهدف قبل اي شيء آخر الى «التقاط اللحظات الأساسية التي كوّنت الجميل والفني على مدى تاريخ البشرية». وهيغل لم ينكر طبعاً، ان فلاسفة ومفكرين كثراً من قبله قاموا بالمحاولة ذاتها. ولكن من المؤكد أن عمله كان، وسيظل، الأكثر اكتمالاً وشمولية.

في نص تقديمي نظري لأجزاء الكتاب ككل، حدد هيغل بنفسه الاسلوب الذي شاء به تقسيم هذا العمل، الذي نذكر بأنه انما وضعه متفرقاً وخلال سنوات ولا شك انه طوره بالتزامن مع ردود الفعل الذي كانت تثيرها المحاضرات والدروس المتتالية لدى طلابه وزملائه.

يقول هيغل «ان المسيرة نحو التعبير عن الحقيقة الأسمى والتي تزداد سموّاً، كما تزداد بالتدرج توافقاً مع مفهوم الروح (...) هي التي تقدم المؤشرات المتعلقة بتقسيم علم الفن. وبالفعل، يتوجب على الروح قبل التوصل الى المفهوم الحقيقي لماهيته المطلقة، أن يجتاز درجات يفرضها عليه ذلك المفهوم بالذات (...). ذلك ان التطور الذي يتم في داخل الروح يشتمل على مظهرين اثنين متناسبين مع طبيعته: فذلك التطور هو نفسه، أولاً، ذو صفة روحية عامة (...) وثانياً، يجد تعبيره على نحو مباشر كما وفي وجودات حسية تناظر الفنون الخاصة المؤلفة لكلية واحدة رغماً عما بينها من فوارق ضرورية (...)». و «انطلاقاً من هذه الاعتبارات، يقول هيغل، نستطيع أن نقسم علمنا الى ثلاثة أقسام رئيسية: فأولاً، سيكون هناك قسم عام. وسيكون موضوعه الفكرة العامة للجمال الفني، من حيث انه مثل أعلى، وكذلك العلاقات الأوثق القائمة بين الجمال الفني وبين الطبيعة من جهة، وبين الابداع الفني الذاتي من الجهة الثانية. وثانياً، يتفرع عن مفهوم الجمال الفني قسم خاص، على اعتبار ان الفروق الأساسية التي يشتمل عليها هذا المفهوم تتحول الى تعاقب من اشكال فنية خاصة (هو القسم الذي عالج فيه هيغل مذاهب الفن: الرمزية والكلاسيكية والرومانسية). وثالثاً، سيكون لزاماً علينا أخيراً ان ننظر في تمايز الجمال الفني، في مسيرة الفن نحو التحقيق الحسي لأشكاله ونحو اضافة نظام يشمل الفنون الخاصة ومتنوعاتها (وهو القسم الذي عالج فيه هيغل أنواع الفن: الهندسة المعمارية والرسم والنحت والموسيقى والشعر...)».

وهذه الأقسام الثلاثة هي التي وزعتها الترجمة العربية على عشرة أجزاء: مدخل الى علم الجمال - فكرة الجمال - الفن الرمزي - الفن الكلاسيكي - الفن الرومانسي - فن العمارة - النحت - الرسم - الموسيقى - والشعر.

وهنا لا بد من التأكيد على ان فرانسوا شاتليه يرى ان هذا النص الغني هو القادر، أكثر من أية اعمال أخرى لهيغل، على اطلاعنا على الكيفية التي تتمازج بها لدى هذا المفكر الاستثنائي، وفي مجموع يتبدى لنا في الوقت نفسه منطقياً و «سيمفونيا»، الملامح الخاصة بعبقرية الفيلسوف: فهنا لدينا الدقة المفهومية، وارادة المزج بين الأفكار، وثراء المعلومات المفاجئ فـ «من الشعر الاسلامي، الى تقنيات الرسم لدى جيوتو، ومن دلالة الرمزية الهندوشية، الى شروحات شيلر، يبدو النص متفوقاً ومهيمناً».

مهما يكن من أمر فإن هذا ليس غريباً عن جورج فلهملم فردرش هيغل المولود العام 1770 في شتوتغارت، والذي يعتبر واحداً من أكبر الفلاسفة الذين أنجبتهم الانسانية في تاريخها، حيث يقال أحياناً انه لئن كان أرسطو يمثل، بعد أفلاطون، قمة الفلاسفة في بداياتها، فإن هيغل، بعد مواطنه إيمانويل كانت يمثل قمة الفلسفة في نهاياتها حيث ان كل ما طرأ على الفكر الغربي من اسس ومفاهيم، بعد هيغل، انما دار من حوله سلباً أو ايجاباً، واعتبر امتداداً له بما في ذلك الماركسية والوجودية...

ومع هذا فإن هيغل عاش حياة هادئة قلّ ان عرفت خبطات درامية، حتى وان كانت زوجته قد تفننت في نص شهير، في تصوير لحظات موته الأخيرة حين أصيبت بداء مفاجئ - قيل انه نوع صاعق من الكوليرا -. حين رحل هيغل كان في الحادية والستين من عمره، وكان وصل الى أعلى درجات المجد الفلسفي، لكنه لم يكن أصدر في حياته سوى أربعة من كتبه الكبيرة، اضافة الى دراسات اخرى صغيرة متفرقة. أما القسم الأكبر من آثاره، فإنما نشر بعد رحيله، وفي وقت كانت فيه الساحة الفلسفية موزعة بين «يمين هيغلي» و «يسار هيغلي»، وكانت فيه كتبه، الصعبة، تُقرأ وتفسّر بأشكال مختلفة. ومن أبرز هذه الكتب «فينومينولوجيا الروح» و «موسوعة العلوم الفلسفية» و «حياة يسوع» و «المنطق» و «فلسفة القانون» و «فلسفة التاريخ» ومعظمها بات مترجماً الى العربية.

 

المصدر: الحياة

آخر تعديل على الإثنين, 07 تموز/يوليو 2014 23:47