الخصخصة وأوهام «الحل السريع»
إيمان الأحمد إيمان الأحمد

الخصخصة وأوهام «الحل السريع»

كشفت الأزمة السورية المستمرة وما رافقها من تحولات اجتماعية واقتصادية عميقة هشاشة بنى المؤسسات وتفكك الروابط المفترضة بينها وبين السوريين. تعكس تلك الهشاشة جوهر المشكلة، فهي لم تقتصر على الطريقة التي جرى بها رسم سياسات محددة كانت أساساً في بناء المؤسسات المختلفة، بل تعداها إلى أسلوب التعامل معها وكيفية إدارتها.

فعلى سبيل المثال، يعكس قطاع التعليم، تحولاً خطِراً في مفهومه الأساسي، من مفهوم الحق المدني المكفول من الدولة لجميع أبنائها إلى مفهوم السلعة الخاصة الخاضعة لمنطق السوق. لا يعبر هذا التحول عن إخفاق إداري فحسب، بل هو مؤشر على أزمة أعمق تمس العقد الاجتماعي الذي يربط الدولة بمجتمعها.
فالادعاء بأن التعليم لا يؤثر في التحولات الاجتماعية والعقد الاجتماعي هو ادعاء يتجاهل الأبعاد السياسية والاجتماعية للعملية التعليمية. ويغضُّ الطرفَ عن كون المدرسةَ والجامعة ساحتين لصراع صامت، صراع على الموارد، والشرعية، والمكانة. حيث تُخاض معاركُ بناء الهوية والانتماء، إذ تصاغ، إلى جانب القدرات المعرفية، شخصية المواطن وتحدد، إلى حد ما، درجة وعيه وإمكانية مشاركته اللاحقة في الحياة العامة وبناء البلاد.


مصادر «الشرعية»


أثرت الأزمة وتبعاتها الاقتصادية على الأسرة بالعموم، وعلى دورها في دعم التعليم على وجه الخصوص، وما زالت مشكلات الوضع المعاشي تتفاقم وتؤسس لمشكلات اجتماعية عميقة، حيث تشارك عملية خصخصة التعليم وتسليعه في تعميق أزمة «إعادة الإنتاج الاجتماعي» ككل، والتي يشير مضمونها إلى «عمليات إنتاج واستمرارية الجماعات عبر الأجيال، خاصة عبر التعليم والأسرة، حيث يتم نقل الثقافة والقيم والمكانة»، فالخصخصة والتسليع ليست سوى أحد الأعراض لمرض أعمق يهدد البنى الاجتماعية برمتها، وتعبير عن فشل جهاز الدولة والسلطة التي تديره في أن يكون عادلاً مع جميع أبناء المجتمع.
التعليم، في جوهره، هو أحد الواجبات الأساسية للدولة وأحد تجليات شرعيتها المحددة بدرجة تحقيقها التزامات أساسية تجاه مواطنيها، في مقدمتها ضمان الحق في توفير تعليم جيد وميسور للجميع، وهذا الالتزام ليس إحساناً ولا خدمة اختيارية، بل واجباً مدنياً وأخلاقياً، بأقل تقدير، تقع مسؤوليته على عاتقها، وشكلاً من أشكال الاستثمار في بناء مواطن واعٍ ومؤهلاً يملك القدرة ليس على رسم مصيره كفرد فقط، بل المشاركة الفاعلة في الحياة العامة السياسية والاقتصادية والمدنية. وعندما تتخلى الدولة عن مسؤوليتها هذه، وتتراجع عن دورها لمصلحة القطاع الخاص فإنها لا تتخلى عن خدمة فحسب، بل تتخلى عن وظيفتها الأساسية كدولة.
هذا التخلي لا يهدد مستقبل الأفراد فقط، بل يهدد بناء المجتمع السياسي، فعندما يتحول التعليم من حق اجتماعي عام ومكفول إلى سلعة خاصة لا يستطيع الجميع الحصول عليها، وتضع الأسر أمام أعباء مالية ثقيلة تحرم أبناءها من الحصول على التعليم اللائق، فتتقوض بذلك فكرة «المواطنة المتساوية»، وتضعف ثقة المواطن بالمؤسسات التي يفترض بها خدمته، وتجعله يفكر بأنه أصبح في حِلّ منها وغير مدين لها بأي
شيء، وتتآكل بهذا المنطق أيضاً شرعية السلطة التي تديرها على أساس الوفاء بالتزامات المجتمع الأساسية.


من «حق» مجاني إلى «سلعة» مسعرة


اُعتبر التعليم تاريخياً عاملاً أساسياً من عوامل التقدم الاجتماعي وغالباً ما كان يُنظر إليه كأداة للتطور وأحد جسور الترقي والصعود في السلم الاجتماعي، إذ كان بإمكان الأسر الكادحة أن تستثمر فيه لكونه يبنى على قيم اجتماعية يقدرها المجتمع كالاجتهاد مثلاً، و«رأس مال ثقافي» يساهم في تحسين مكانتها الاجتماعية من خلال تعليم أبنائها، تؤدي خصخصة التعليم إلى زوال مثل هكذا خيار، إذ يصبح العائق المالي حاسماً، يُجبرها على اللجوء إلى خيارات تعليمية أقل جودة، في المقابل تعزز الأسر الغنية والمترفة مكانتها بشراء تعليم نوعي يضمن لأبنائها مواقع اجتماعية ووظيفية مرموقة.

يعمق هذا التوجه الفوارق الطبقية ويُحوّل التعليم إلى أداة لخدمة المصالح الضيقة «للنخب» التي ساهمت بإنتاجه وإحدى آليات إعادة إنتاج التفاوت الطبقي القائم وتكريسه لأجيال قادمة من جهة، كما تمتد آثار هذا التحول لتصيب البنية الاجتماعية والنفسية من جهة أخرى، سواء على مستوى الفرد أو المجتمع، ومن نتائجها «أمية وظيفية» لحاملي الشهادات الذين لا يجدون عملاً يليق بهم، وبطالة تلتهم ما تبقى من أحلام الشباب، وهجرة تفرّغ البلاد من عقول أبنائها وطاقاتهم. كما تُسبب الضغوط المالية الهائلة الملقاة على كاهل الأسرة لتمويل تعليم أبنائها، توترات أسرية حادة، ويؤثر على استقرار بنيتها الداخلية، فالشعورُ بالعجز أمام مستقبل الأبناء، والتحول من حلم «التطور وبناء المستقبل» إلى كابوس «النجاة من الحاضر»، يولّد اغتراباً عميقاً وتوتراً يُضعف البنى الأسريةَ من الداخل، ويحد من قدرة الأسرة على أداء وظيفتها التربوية والنفسية. ويتحول التعليم الذي كان يُفترض أن يكون عامل استقرار وتحصين، إلى مصدر قلق وتوتر.


هروب من الاستحقاقات


ثمة أهمية لمشاركة المجتمع والناس الواسعة في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبالتالي مشاركتهم في إدارة الموارد وتوجيهها للصالح العام، مما يسمح ببناء حالة من الاستقرار، توفر بدورها إمكانية خلق الفرصة المناسبة ليس لتلبية حاجات الناس المختلفة على المستوى الاقتصادي فقط، بل لإعادة بناء البنى الاجتماعية المختلفة، على المستوى السياسي والاجتماعي وتطويرها، بحيث تلعب دورها في التعامل مع أعباء ونواتج الأزمات والتي تفوق قدرة أي مؤسسة لوحدها على الاستيعاب ووضع الحلول المناسبة.
إن «خصخصة الأعباء الاجتماعية» ومنها التعليم، ليست سوى هروب من الاستحقاقات الوطنية، فهذا النهج لا يفاقم الأزمات القائمة فحسب، بل يعمقها ويفقد معها المجتمع أدواته الجماعية في مواجهة تحديات ومشكلات متراكمة لا يمكن حلها دون مشاركة مجتمعية حقيقية وواسعة.


مسؤولية وطنية بامتياز


إن تحول التعليم من حق إلى سلعة في سورية ليس مؤشر تراجع دور الدولة في ضمان حقوق مواطنيها فحسب، فلقد برهنت التحولات الاجتماعية الناتجة عن هذا المسار أن التخلي عن التعليم كمسؤولية وطنية يهدد بشكل مباشر تماسك المجتمع واستقراره السياسي على المدى البعيد.
يوضح واقع التعليم في سورية اليوم أنه أكثر من مجرد أزمة قطاع، أو مؤسسة. لذلك، تتطلب المعالجة الحقيقية لهذه الأزمة إعادة الاعتبار إلى مفهوم التعليم بصفته «استثماراً وطنياً استراتيجياً» في مستقبل البلاد ووحدة نسيجها الاجتماعي، وحقاً أساسياً من حقوق أبنائها جميعاً، وليس مجرد نشاط تجاري، أو سلعة خاصة، أو امتيازاً لفئة دون أخرى. كما يتطلب استعادة جدية لدور الدولة وفاعليتها كمنظم وضامن للحق في تعليم جيد وشامل للجميع، وذلك من خلال سياسات تعيد بناء الثقة وتأسيس الشرعية على أساس تحقيق أعلى درجة من المساواة وتُجدد بناء عقد اجتماعي على أسس من الكفاءة والإنصاف.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1255