«الأراضي الملعونة» لبلاسكو - ايبانييث: الحريق يوقف اللعنة

«الأراضي الملعونة» لبلاسكو - ايبانييث: الحريق يوقف اللعنة

إذا كان أدب الإسباني فنثنتي بلاسكو - ايبانييث قد وصف دائماً بأنه يحتوي على العناصر الأربعة التي تبرر انتشار شهرته في أنحاء العالم كافة، في وقت لم يكن الأدب الإسباني قد أوصل إلى هذا العالم أية أعمال روائية كبيرة منذ «دون كيشوت»، فإن رواية هذا الكاتب - الذي يكاد يكون منسياً في أيامنا هذه - المعنونة «الأراضي الملعونة»، تحمل في شكلها ومضمونها، كما في أسلوب تلقّي القرّاء لها، كل واحد من تلك العناصر الأربعة، فهي كلاسيكية في صياغتها، إقليمية في البيئة التي تدور فيها أحداثها، سيكولوجية في تعمقها بدراسة شخصياتها ودوافع هذه الشخصيات، وأخيراً تاريخية في حبكتها.

والحقيقة أن هذا كله يجعل من هذه الرواية عملاً كوزموبوليتياً من ناحية تلقي القرّاء لها. وهذا عنصر خامس في أدب ايبانييث يتولد عن العناصر الأخرى التي ذكرنا. ومن المعروف عادة أن الأشهر بين أعمال هذا الكاتب الإسباني، روايته الكبرى «فرسان يوم الرؤيا الأربعة»، ذلك العمل الذي اعتبر إلى بعده السياسي، إنسانياً ومهّد للكثير من الروايات الأخرى التي كتبها ايبانييث حول الحرب في شكل عام والحرب العالمية الأولى في شكل خاص، علماً أن «فرسان يوم الرؤيا...» حين اقتبست إلى السينما من قبل فنثنتي مينيللي في ستينات القرن العشرين، جُعلت تدور أحداثاً خلال وما قبل الحرب العالمية الثانية، ما يؤكد كوزموبوليتية أدب كاتبها. كذلك يمكن ان نقول هنا إن «الأراضي الملعونة» اقتبست سينمائياً في بلدان عدة وحُوّلت أحداثها لتدور في تلك البلدان وليس في إسبانيا، موطن أحداثها الأصلي. ما يضفي مزيداً من الشمولية الكوزموبوليتية على أدب ايبانييث.

وكان ايبانييث قد كتب «الأراضي الملعونة» ونشرها عام 1899، أي قبل نحو عقدين من ازدهار رواياته الحربية. وكان في ذلك الحين لا يزال متأثراً إلى حد كبير بأدب إميل زولا، إلى درجة ان كثراً من النقاد توقعوا له في ذلك الحين ان يؤسس أدباً طبيعياً واقعياً ينتمي إلى عوالم زولا، ولكن على الطريقة الإسبانية. لكنه في حقيقة الأمر كان في ذلك الحين من الانشغال بالمسائل السياسية في بلده، إلى درجة استنكف معها عن إعطاء وقته كله للأدب وللتجديد فيه. بل لا بد من أن نذكر هنا ان ايبانييث بدأ يكتب رواية «الأراضي الملعونة» حين كان نزيل السجن معتقلاً بين العامين 1896 و1897، لأسباب سياسية هو الذي كان عضواً في الحزب الجمهوري معادياً للملكية الإسبانية، يعبّر عن مواقفه السياسية هذه في مجلة «بويبلو» (الشعب) التي كان يحررها. وهنا لا بد من أن نشير للمناسبة إلى أن ايبانييث اهتم بالسياسة طوال حياته وربما أكثر من اهتمامه بالأدب، بل انه - وفق بعض النقاد - إنما كان يضع موهبته الأدبية كلها في خدمة أفكاره ونضالاته السياسية، حتى وإن كان من الظلم القول إن هذا قد أساء إلى أدبه كثيراً. صحيح انه أدب ارتبط بالسياسة عن كثب، لكنه كان في الوقت نفسه أدباً شعبياً ممتعاً، لم تقتصر قراءته على رفاق الكاتب ومناصريه السياسيين.

وفي هذا الإطار لا تختلف «الأراضي الملعونة» (وعنوانها الأصلي «الباراكا»)، عن بقية أعمال ايبانييث، إلا بمقدار ما فيها من أجواء روائية قد تبدو باروكية على رغم نزعتها الواقعية. ذلك ان الأحداث التي تُروى لنا في هذه الرواية، تنبئ منذ البداية بأننا قد نكون في صدد رواية رعب حقيقية. غير أن الكاتب سرعان ما يوظف هذا، كي يكتسب القارئ إلى جانبه، ويقدم له الحكاية السياسية - الشعبية، التي أراد الغوص فيها.

هذه الحكاية تدور حول عزبة وقطعة من الأرض الزراعية في ريف إسباني عميق. هناك، حين تبدأ أحداث الرواية، تكون قد مضت سنوات على جريمة مرعبة ارتكبت في المكان. غير ان سكان القرية النائية والتي تعيش، كما الحال دائماً في ذلك النمط من الريف الإسباني، حياة وتقاليد قديمة جداً، هؤلاء السكان خاضوا ما يشبه مؤامرة الصمت من حول الجريمة العائلية التي شهدتها العزبة، بل تعاطفوا، علناً أو ضمنياً مع القاتل، ليؤكدوا ان تلك العزبة وأراضيها مصابة بلعنة ستطاول بآثارها السيئة كل من يتقدم للسكن في بيت العزبة وفلاحة أراضيها. وتظل الحال على هذا النحو حتى يجرؤ المدعو بدرول على التنطح للعيش هناك وفلاحة الأرض. إن بدرول، القوي والنشيط لا يأبه أبداً بالأخطار الموعودة والتهديدات، بل يتوجه إلى هناك مع عائلته ويبدأ العمل فوراً. غير ان الرد سرعان ما يصل. فالواقع ان ثمة واحداً من أعيان المنطقة هو بيمنتو، لا يستسيغ تصرف المزارع المتمرد. ومن هنا، بسبب قوته ونفوذه، يتمكن من تأليب الفلاحين على بدرول... وهؤلاء إضافة إلى رجال السلطة، بدلاً من ان يهاجموا بدرول مواجهةً يبدأون بمضايقة أولاده... غير ان هؤلاء لا يتوانون، كلما تعرضوا إلى مضايقة أو هجوم، عن رد الصاع صاعين. وتظل تلك هي الحال حتى اليوم الذي يتمكن فيه رجال بيمنتو من إلقاء الأصغر بين أولاد بدرول إلى بركة المياه. صحيح أن الفتى ينقذ من الغرق، لكنه يصاب من فوره، ومن جراء المياه، بمرض سرعان ما يقضي عليه وسط غضب أبيه وحزن إخوته. ويكون من اثر هذا الموت الحزين، أن يبدأ الفلاحون بطرح أسئلة على أنفسهم، بل إن البعض منهم يشعر بنوع من التعاطف مع بدرول وعائلته. إضافة إلى هذا كله، يحدث ان الأرض التي زرعت وحرثت من بعد بوار طويل، راحت تؤتي ثمارها، ما أثلج قلوب الفلاحين وجعلهم يؤمنون بأن اللعنة قد ذهبت.

غير ان الأمور لن تقف عند هذا الحد، إذ ما إن استقرت الأحوال بعض الشيء وبدأ بدرول وأبناؤه يشعرون ان في إمكانهم ان يعيشوا بسلام ووئام مع الجيران، حتى ثار خلاف - بدا أول الأمر تافهاً لا معنى له في مقهى القرية -، كان من شأنه ان أعاد الأحقاد القديمة إلى الواجهة. وخلال ذلك الخلاف، الذي أسفر أول الأمر عن جرح بيمنتو لبدرول، يحدث أن تنتهي المعركة بمقتل بيمنتو. وتعود المعاناة إلى العائلة من جديد، ذلك ان بدرول بات موقناً الآن بأن الثأر لمقتل خصمه النافذ لن يتأخر بل سيأتي قريباً جداً... وسيكون ثأراً جباراً. ولكن، بدلاً من أن يأتي الثأر من البشر ومن رجال بيمنتو يأتي من مكان آخر: من الطبيعة نفسها. إذ ما ان يحل الليل حتى تندلع عاصفة مرعبة تدمّر في طريقها كل شيء... وإذاك يغضب بقية الفلاحين لإيمانهم بأن ما أحدثته الطبيعة إنما هو انتقام إلهي من بدرول، ليس فقط، لقتله بيمنتو، بل كذلك لتجرّؤه على الرغبة الإلهية في ان تبقى العزبة مهجورة وملعونة إلى الأبد. فالمشكلة الحقيقية ليست في الصراع بين بدرول والآخرين، وليس في اعتداءات الفلاحين على بدرول. المشكلة الحقيقية تكمن في بدرول نفسه الذي قرر ان يخرق القوانين الشعبية والأعراف التي تفرض على أرض ملعونة ان تظل ملعونة إلى الأبد. وهكذا، انطلاقاً من هذه الفكرة - وبدلاً من أن يكون في الأمر أي انتقام لمقتل بيمنتو، يهجم فلاحو القرية على العزبة ليحرقوها، آملين ان هذا الإحراق لها سيوقف اللعنة التي انتقلت منها إلى القرية كلها.

كما أشرنا، بدأ ايبانييث كتابة هذه الرواية وهو في السجن، والمرجح - وكما ذكر هو غير مرة لاحقاً - انه انما استقى الأحداث التي عاد وصاغها في ذلك القالب الروائي القوي والبديع، من حكايات عن أحداث حقيقية رويت له وهو في السجن. وفنثنتي بلاسكو - ايبانييث (1867 - 1928) يعتبر من أكثر الكتّاب الاسبان شعبية في العالم، إذا اسثنينا ثربانتس صاحب «دون كيشوت». وكما أشرنا، عمل هذا الكاتب باكراً في الصحافة والسياسة وناضل من أجل ترسيخ الديموقراطية الجمهورية في بلده. وهو في رواياته، إضافة إلى نزعته الطبيعية التي حاولت دائماً ان تصف الحياة كما هي، صوّر نضالات الفلاحين وكذلك صيادي الأسماك، كما صوّر الحرب في ثلاثيته («فرسان يوم الرؤيا الأربعة» و «بحرنا» وأخيراً «ألغاز المرأة») التي صدرت تباعاً بين 1916 و1919.

 

المصدر: الحياة