سيرة السيرة
تقودنا سيرة أي كائن إلى الكشف عن مراحل خلقه وتكونه، عن الظروف التاريخية التي سيرته ليتشكل في صورته الأخيرة، عن الطرقات التي سلكها عن جباله وبحاره، حيث التحولات المتكررة في شكل كائن يؤثر بدرجة التأثر نفسها.
السيرة هي مغامرة الكائن في رحلة حفرِهِ نحو صورة ما، وسيرة السيرة هي بالضبط ما تظهر على سطح حجر نحتته الأمواج على أحد الشواطئ المهجورة وتسكن على جدار أتخيله في صندوق رأسي نبشته فكرة طائشة قبل أن تتبخر، وإن لم تعد فإنها وفق اعتقادي لن تتبخر كلياً، وإن استطعت يوماً ما القبض عليها وإخراجها إلى حيز التجربة فستظهر حتماً بشكل مختلف عن التصور الأول، ولا أعلم بعدها سيرة من ستخلد، ربما ستخلدان معاً.
أعتقد بأن لوحة في قيمة "الجيوكاندا" قد أحدثت تصدعاً رهيباً في ذاكرة دافنشي لدرجة أنها باتت جزءاً مهماً من سيرته الذاتية، بالمقابل ستكون أهمية الفنان بالنسبة للوحة أمراً بدهياً، لكنه قد لا يتجاوز يوماً ما في سيرة اللوحة أهمية بصمات معتوه يجهل قواعد اللوفر.
قد نحاول عبثاً الحدَّ من حركة اللوحة لإلزامها بخطوات سيدها، لكننا في نهاية الأمر سنواجه هوامش أخرى تتعلق بنوع الإطار وتاريخ صناعته وعمر اللوحة والمواقف التي تعرضت لها اللوحة نتيجة إهمال القائمين على المتحف، هوامش بإمكانها التمرد على سيادة الصانع والاستقلال بسيرة خاصة تكون فيها اللوحة هي الذات مع إمكانية استقلال أخر عن السيدة هذه المرة.
عندما نتطرق بالحديث عن ما وصلت إليه الرواية الحديثة من تطور في الكتابة فلا أظن أن أقل النقاد موهبة يستطيع الإدعاء بإنكار وجود دستوفسكي في سيرة هذا التطور، وإن تعدت سيرته الشخصية لقرن من الزمن، فهل يوجد دستوفسكي في سيرة الرواية حقاً دون وجودها في سيرته، ربما وجب علينا هنا تجاوز الكثير من التعقيدات والتكرارات في توظيف الأمثلة للوقوف عند حدود البساطة.
بين سيرة الرواية وسيرة دستوفسكي المتخمة بسير متعددة لروايات عظيمة تكمن سيرتي الشخصية، ولن أعلم بوجود مثل هذا العملاق في الرواية الحديثة إن لم يكن جزءاً من سيرة قراءتي الشخصية، فلا يمكننا بأية حال الحديث عن سيرة ذاتية وتجاهل سير لا تملك ذاتاً، لأننا بالفعل نمنح من نشاء ما نشاء، وحدث أن أدرجت سير وهمية لبعض الأحجار التي تعرضت لتغيرات مناخية، فصارت تمتلك قيماً تاريخيةً منها ما قدمه العريس الفقير لبنت السلطان بعد أن نحتها بماء الجان، ومنها ما تركه سقوط الإغريق في إحدى حروبهم مع إله الجبل.
في أحد المزادات الخيالية التي يقيمها العرب ابتاع أحد الأثرياء شالاً ونظارة لكوكب الغناء بملايين الدولارات ليضعها في متحف بيته الخاص وهي أدوات بطبيعة الحال دون التداول، فيمكن لزوجته مثلاً أن تطير ليس فرحاً طبعاً إذا أخطأت يوماً وارتدت الشال عند خروجها للتسوق.
ولا أعلم إن كانت قد صُنعت النظارة في حقبة الستينيات منفردة، كما لا يمكننا الجزم بعدم تحطم نظارة الرائعة أم كلثوم الحقيقية، تحت أقدام الخادمة أثناء تقديم الواجب للمعزين، لكننا نعلم جميعاً أن ثياب سيدة الغناء باتت إرثاً تاريخياً يعتز به الأثرياء، وتركة لائقة ينعم بها ورثة السيدة، ويبدو أن هناك من تعلم الدرس جيداً بعد مرور أكثر من جيل كامل ليدفع العشرات من الملايين مقابل حذاء قُذف في وجه رئيس دولة عظمى، وربما في شراء المصنع الذي أنتج الحذاء، لكن المشكلة تكمن في أن جميع السير التي طرحها رؤساء المصانع الكبرى في العالم تختلف عن سيرة الحذاء المقذوف.