إنستغرام كفقاعة ثقافية لاقتصادٍ بلا إنتاج حقيقي (2)
برونا فراسكولا برونا فراسكولا

إنستغرام كفقاعة ثقافية لاقتصادٍ بلا إنتاج حقيقي (2)

تعتمد كثيرٌ من التطبيقات والخدمات الرقمية لشركات التكنولوجيا الحديثة على جعلك توافق مسبقاً على «شروط اتفاقية الترخيص» والتي كثيراً ما تكون إلزامية قبل أن تسمح لك باستعمالها. وجزء هام من هذه الشروط يحوّلك إلى مستَهدَف دائم من شركات دعاية أخرى لعرض إعلانات شتّى عليك. ويُنشِئ البائعُ علاقةً مميزة مع الزبون بفضل هذه العلاقة الذاتية، وليس الميزات الموضوعية للمنتوجات، فيتمكَّن من البيع والربح. ومن نماذج هؤلاء «البيّاعين» اليوم المؤثِّرون على إنستغرام وغيره من تطبيقات، حيث يقنعون الناس بكثيرٍ من التفاهات عديمة الفائدة بناءً على جاذبيتهم الشخصية.

تعريب وإعداد: ياسمين دمشقي

يمثّل دور إنستغرام في الاقتصاد الأمريكي نمطاً جديداً من التجارة في مطلع الألفية. في عام 1999، نشر، سيث جودين، مدير «التسويق المباشر» في ياهو كتاب «التسويق بالإذن: تحويل الغرباء إلى أصدقاء والأصدقاء إلى عملاء»، ووفقاً له فإن الإعلان المسمَّى «التسويق المُقاطِع»، كما في التلفزيون، لأنه «يعترض» طريقَك أو مسلسلك المفضل مثلاً، ليعرض عليك المنتج، دخل في أزمة لسببين.

السبب الأول، وبكل وضوح، هو أن الناس يُغرَقون بالفعل بوابلٍ من الإعلانات طوال الوقت، ولم يعد بإمكانهم الانتباه للمنتجَات المعروضة. السبب الثاني هو الركود؛ وربما نقص اهتمام الناس بالجودة، لذا من شبه المستحيل إقناعهم بالتخلي عن علاماتهم التجارية المفضَّلة بناءً على الصفات الموضوعية لمنتوجات جديدة.

وكان الحل من وجهة نظر جودين، في إنشاء «هياكل إذنية»، حيث لا توجد مقاطَعات، لأنها تجعل الزبون، بدلاً من ذلك، ينتظر بفارغ الصبر الصديقَ/البائع الذي يَظهر للإعلان. كتاب جودين عن «التسويق بالإذن» ترجم إلى البرازيلية عام 2000، وإلى الألمانية عام 2001.

وفي عام 2006، استخدم الاستراتيجي ديفيد أكسلرود هياكل الأذونات في الحملة الانتخابية الناجحة لباراك أوباما، وأخذ الرئيس الأمريكي هذه الاستراتيجية على محمل الجد. في عام 2013، أشارت وسائل الإعلام إلى أنّ هذا المصطلح الغامض «هياكل الأذونات» كان جزءاً من لغة الرئيس. وكما تُظهر ويكيليكس، كان أوباما مُدركاً تماماً لقوة شركات التكنولوجيا الكبرى.

في العام السابق، 2012، استحوذت فيسبوك على منصة التواصل الاجتماعي التي استخدمها «الهيبسترز» لنشر صور القطط، وحولتها إلى وسيلة إعلانية ضخمة هي إنستغرام. في العقد نفسه، أصبح فيسبوك نفسه الأداة المستخدمة للدعوة إلى مظاهرات الثورات الملوّنة في عدد من الدول.

أعراض لداء «الركود التكنولوجي»

لنعد إلى بداية الألفية. في عام 2002، طُرح نموذج الجامعة الأمريكية الجديدة: نموذج مركزي، متعدّد التخصّصات، يعتمد على المقاييس، والأهم من ذلك، مُكرّس للطالب/الزبون، على حساب أعضاء هيئة التدريس وإنتاج المعرفة. وهكذا، في الوقت نفسه الذي قررت فيه الولايات المتحدة أن الجامعات لن تكون مراكز لإنتاج المعرفة، أعلن أحد رواد التسويق الرقمي الناشئ عن استراتيجيته الجديدة القائمة تحديداً على فرضية «الركود التكنولوجي».

بالنظر إلى الماضي، يمكننا الافتراض أنه في بداية الألفية، كانت النخب الغربية قد قررت بالفعل خلق هذا العالَم المُنعزل عن الصناعة، المُتّسم بالركود العلمي والتكنولوجي، ولهذا السبب اخترعت هذا النموذج الجامعي.

في حدّ ذاته، لم يكن الدفاع عن الركود أمراً جديداً في مطلع الألفية. ففي سبعينيات القرن الماضي، طالبت نظرية مالتوس، التي عبّرت عنها كتب مثل «القنبلة السكانية» (1968) و«حدود النمو» (1972)، بتوقف دول العالم الثالث عن النمو، بما في ذلك التشجيع على تقليص عدد السكان بأيّ وسيلة مهما كانت إجرامية وغير أخلاقية.

في عام 1971، ندد السفير البرازيلي أراوجو كاسترو بهذه الحركة الفكرية، واصفاً إياها بـ«الميل إلى تجميد القوة العالمية»، والتي تشمل «القوة السياسية، والقوة الاقتصادية، والقوة العلمية والتكنولوجية»، من خلال إجبار دول العالم الثالث وحدها على تحمّل أعباء الحفاظ على الغابات والطبيعة - حتى من دون السماح بمرور الطرق أو شبكات الكهرباء – من أجل أن يحافظ العالم الأول على حريته في الإنتاج والتلويث وإنشاء البنية التحتية، وما إلى ذلك.

لكن يبدو أن الجديد في مطلع الألفية الجديدة هو تجميد العالَم الأول نفسه، الذي يقع في الحفرة التي حفرها بنفسه؛ فما هي الإنجازات الغربية في هذه الألفية؟

في العقد الأول، شهدنا اختراعات شركة آبل، التي أدت إلى انتشار الهواتف الذكية عالمياً في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. ثم ركد هذا المجال.

في عشرينيات القرن الحادي والعشرين، تتمثل المستجدات في «لقاحات» أظهرت البيانات نسبة أضرارٍ «جانبية» لها أعلى مما هو مقبول في مقابل المنافع. واستخدام للذكاء الاصطناعي بهدف استبدال العمالة البشرية من الطبقة المتوسطة بعمالة أقل جودة، رغم الإمكانيات الكامنة في الذكاء الاصطناعي لاستخدامه بالفعل لأهداف تحسين حياة البشر عامّةً. هذه معرفة متخصصة للغاية، تُنتَج في مراكز خاصة محاطة بأسرار تجارية. الجامعات الغربية اليوم استُبدلَ بها حفنةٌ من شركات الأدوية، وبلاك بيري وأبل الراحلتين (في العقد الأول من الألفية)، والآن شركات إيلون ماسك.

التسمُّم الذاتي بـ«نهاية التاريخ»

من الممكن أن يكون هذا الركود هو النتيجة المنطقية لعقيدة فوكوياما حول ما زعم أنها «نهاية التاريخ»، وهي فكرة بلغت ذروتها في مطلع الألفية. بعد سقوط جدار برلين عام 1989، قرر فرانسيس فوكوياما أنّ التاريخ قد انتهى لأنّ البشرية قد وجدت شكلها النهائي: ستكون جميع الدول ديمقراطيات ليبرالية مدمجة في السوق الرأسمالية العالمية. وقد غذّى هذا الاعتقاد غزو العراق عام 2003: اعتقد الأمريكيون أنهم سيسقطون ديكتاتورية عفا عليها الزمن، وسيُرحّب بهم كمحرِّرين من قِبل العراقيين المتحمّسين للديمقراطية وماكدونالدز. وبالتالي، من المحتمل جداً أن تكون أمريكا نهاية التاريخ قد قررت أن كل ما ينقصها هو تكنولوجيا المعلومات، ليكتشف العالم أجمع الديمقراطية على هواتفهم المحمولة وينظموا مظاهرات على فيسبوك تطالب بماكدونالدز.

ولكن بيع الإمبراطورية وهمَ «نهاية التاريخ» لنفسها بالذات، قبل الآخرين، لم يمرّ دون التسمُّم والخَدَر الذاتي الذي يزيدها عنجهيّةً وكَسلاً، فلسان حالها كان يقول: إذا كانت نهاية التاريخ قد حلّت بالفعل، وإذا كنا قد بلغنا القمة بالفعل، فلا معنى للاستثمار بكثافة في المزيد من المعرفة والتكنولوجيا والصناعة والإنتاج... بل أكثر من ذلك، لا معنى حتى للخوف من منافسة القوى المتنافسة. وهذا يُفسِّر جزئياً لماذا يمكن للأسلحة الروسية والإيرانية أن تُفاجئ الغرب في الحرب، ولماذا يمكن للتكنولوجيا الصينية أن تُوقِع الغرب في مأزق في المنافسة التجارية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1241