الصين «كـدولة كهربائية» في مواجهة أمريكا البترولية: تحولات جيوسياسية في عصر المناخ

الصين «كـدولة كهربائية» في مواجهة أمريكا البترولية: تحولات جيوسياسية في عصر المناخ

في كانون الثاني 2025، طرح داني كينيدي - المستشار الأول في مشروع «صن رايز» ومدير سابق في الصندوق الكاليفورني للطاقة النظيفة- تحليلاً ثورياً في مقالته «الدولة البترولية الأمريكية مقابل الدولة الكهربائية الصينية». جاء هذا التحليل متزامناً مع تقارير الملحق المالي (Financial Times) التي وصفت نهوض الصين كأول «دولة كهربائية كبرى» (Electrostate) في العالم، حيث تتجاوز كهربة الاقتصاد والاعتماد على التقنيات النظيفة أي نموذج سابق. يشير هذا المصطلح إلى الدول التي تعيد تشكيل اقتصادها وسياستها حول الطاقة الكهربائية النظيفة، مقابل «الدول البترولية (Petrostates) التقليدية» كالولايات المتحدة والسعودية وروسيا، التي تُعَزِّز هيمنتها عبر الوقود الأحفورري.

الصين: تشريح معجزة الكهربة الأرقام التي تُذهل العقل

- كهربة الاقتصاد: وصلت نسبة الكهربة في الصين إلى ٣٠٪ من إجمالي استهلاك الطاقة، متجاوزةً بكثير الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي (٢٢٪) .

- الطاقة المتجددة: تمتلك الصين ٤٣٪ من القدرات العالمية المركبة للطاقة الشمسية والرياح، وتُولِّد مصادر متجددة الآن ١٠٪ من ناتجها المحلي الإجمالي.

- المركبات الكهربائية: تجاوزت مبيعات السيارات الكهربائية في الصين ٥٠٪ من إجمالي السوق المحلي في ٢٠٢٥- متقدمة بعشر سنوات على التوقعات.

- النقل الجماعي: تهيمن الصين على ٩٠٪ من سوق الحافلات الكهربائية العالمية، وتشغل شبكة قطارات فائقة السرعة تفوق نظيرتها الأوروبية بخمس مرات.

التحول الهيكلي: من الانبعاثات إلى النقلة النوعية

في أيار ٢٠٢٥، أعلن Carbon Brief أن انبعاثات الكربون الصينية انخفضت بنسبة ١٪ على أساس سنوي رغم النمو الاقتصادي، وهو أول انعكاس في المنحنى منذ الثورة الصناعية. يعود هذا إلى:

- استبدال الفحم: من المتوقع أن تتجاوز الطاقة الشمسية الفحم كمصدر أساسي للكهرباء خلال ثلاث سنوات، مع وصول حصة الطاقة النظيفة (شمس، رياح، نووي، بطاريات) إلى نصف المزيج الكهربائي .

- الهيمنة الصناعية: تنتج الصين ٨٠٪ من الألواح الشمسية و٦٠٪ من بطاريات الليثيوم العالمية، مما يمنحها سيطرة على سلاسل توريد التقنيات الخضراء.

البُعد الجيوسياسي: تصدير النموذج

لم يقتصر النموذج الصيني على الداخل، بل أصبح مصدراً للجنوب العالمي:

- ٥٠٪ من صادراتها من معدات الطاقة الشمسية والرياح والمركبات الكهربائية تتجه إلى آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.

- مشاريع مثل مبادرة الحزام والطريق تُحوِّل البنية التحتية للطاقة في الدول النامية نحو الكهربة النظيفة.

الولايات المتحدة: تعزيز الدولة البترولية تحت حكم ترامب

التراجع المناخي والانحياز للوقود الأحفوري بعد عودة ترامب إلى السلطة في كانون الثاني ٢٠٢٥ :

- الانسحاب من اتفاق باريس: أُعلِن مجدداً كأول قرار رئاسي .

- تعزيز التصدير: أصبحت الولايات المتحدة أكبر مصدر للغاز الطبيعي المسال (LNG) في العالم، وتُسَخِّر سياسة التعريفات لإجبار الدول على شراء إمداداتها .

- التنسيق مع دول البترودولار: تتجه واشنطن نحو تحالف غير مسبوق مع السعودية وروسيا، حيث تُشَكل هذه الدول الثلاث ثلث الإنتاج النفطي العالمي (٣١ مليون برميل يومياً) .

الحرب التجارية: ضربة للاقتصاد والمناخ

فرضت إدارة ترامب تعريفات على الواردات الصينية بلغت ذروتها ١٤٥٪، قبل أن تخفضها إلى ٣٠٪ تحت ضغط انهيار البورصة، لكن الأثر كان كارثياً:

- تخفيض التجارة مع الصين بنسبة ٦٥٪: وفقاً لتحليل بول كروغمان، سينخفض إجمالي التجارة الأمريكية العالمية بنصفها، مما يرفع أسعار المستهلك ويُعَطِّل سلاسل التوريد للتقنيات الخضراء.

- معارضة نقابية مثيرة للجدل: دعم رئيس اتحاد عمال السيارات (UAW) التعريفات، لكن النقاد يرونها ضريبة على الفقراء وتخدم أجندة اليمين المتطرف.

العوامل الهيكلية: لماذا تتفوق الصين؟

١. التخطيط المركزي والاستثمار طويل الأمد

- استراتيجية «صنع في الصين ٢٠٢٥»: حوّلت الدولة قطاعات التصنيع نحو السيارات الكهربائية والطاقة المتجددة والذكاء الاصطناعي عبر دعم مباشر وتسهيل ائتماني.

- تفوق الاستثمار: أنفقت الصين ٥٤٦ مليار دولار على الطاقة النظيفة في ٢٠٢٤، بينما لم تتجاوز استثمارات الولايات المتحدة ١٤٠ ملياراً رغم قانون خفض التضخم.

٢. النظام السياسي كعامل تمكين

- المرونة في السياسات: تبنّت الصين أهدافاً طموحة للطاقة المتجددة ثم ضاعفتها قبل سنوات من المواعيد بعد تجاوزها المبكر، بينما تعاني الديمقراطيات الغربية من تقلب السياسات مع تغير الحكومات .

- التكامل بين القطاعين العام والخاص: حوّلت الدولة الشركات الخاصة مثل BYD وCATL إلى عمالقة عالمية عبر عقود الدولة ودعم البحث العلمي.

٣. المحددات الهيكلية للرأسمالية الأمريكية

- هيمنة البتروكيماويات: تُشكل شركات النفط والغاز لوبي مؤثر في واشنطن، حيث أنفقت ٢٠٠ مليون دولار على حملات الضغط في ٢٠٢٤ .

- قصر النظر الربحي: يُفضل السوق الأمريكي العوائد السريعة، مما يُثَبِّط الاستثمار في بنى تحتية بطيئة العائد كشبكات الكهربة والقطارات.

الدروس والخاتمة: نحو اشتراكية مناخية؟

١. الصين ليست مثالية

رغم الإنجازات، تواجه الصين تحديات:

- الاعتماد على الفحم: لا يزال يُولِّد ٥٥٪ من الكهرباء، وإن كان في تراجع.

- انبعاثات تاريخية: مساهمتها في الاحترار العالمي تراكمياً أقل من الولايات المتحدة، لكن انبعاثاتها السنوية لا تزال الأعلى.

٢. أزمة الرأسمالية الخضراء

فشلت محاولات «تحويل الرأسمالية إلى خضراء» كما في عهد بايدن، حيث حوّل «قانون خفض التضخم» ٣٧٠ مليار دولار لدعم الطاقة النظيفة، لكنه سمح بالتوسع في التنقيب عن النفط والغاز لاسترضاء الشركات.

٣. العبرة الجيوسياسية

يُظهر التنافس بين «الدولة الكهربائية» و«الدولة البترولية» أن:

- النموذج الصيني يثبت أن التخطيط المركزي والاستثمار العام الضخم هما الأداتان الأكثر فعالية لمواجهة المناخ.

- الرأسمالية الاحتكارية في الغرب، كما يرى مفكرو مراجعة شهرية (Monthly Review)، عاجزة عن حل الأزمة البيئية بسبب تناقضها الجوهري بين النمو اللا محدود وحدود الكوكب.

يظل السؤال المركزي: هل يمكن تعميم «اشتراكية الخصائص الصينية» كنموذج عالمي؟ أم إن الصراع بين الإلكترونات والهيدروكربونات سيكون ساحة الحرب الجديدة للقرن الحادي والعشرين؟

معلومات إضافية

العدد رقم:
1237