نحبها هذي البلاد ونريدها

نحبها هذي البلاد ونريدها

«نحبها هذي البلاد، نحبها كما هي، بعجزها، وجرحها، نحبها لأنها قلعتنا الأخيرة»، ولأننا نحبها نريدها حرة وكريمة...

في المواقف التي تعكس الرغبة في التطبيع مع العدو الصهيوني، والذي مهما حاول وفعل فسيظل عدواً ليس إلا، يبرز اتجاهان واضحان أولهما هو مواقف بعض القيادات السياسية ومأجوريها في الإعلام وهذه تبحث عن فوائد وامتيازات يمكن أن يحققها لها موقفها هذا، كالفوائد السلطوية أو المالية... إلخ، والثاني مواقف الفئات والشرائح الشعبية المختلفة الرافضة للتطبيع مع عدو عرفوه لعقود وتبينوا حقيقته كخطر دائم وواضح يطمع باحتلال الأرض وإخضاع الناس والسكّان ليس في فلسطين وحدها بل في كل المنطقة، ويحاول أصحاب الاتجاه الأول غالباً تعليق تبريرات مواقفهم على شماعة القبول الشعبي بينما الحقيقة غير ذلك، فلا يوجد ما يدفع الناس للقبول بالتطبيع مع كيان لم يكن يوماً سوى مشروع استعماري استيطاني وتهجيريّ وإلغائيّ وإباديّ يُعلن صراحة خططه، لطرد الناس والسكان وتهجيرهم واستباحة أراضيهم لبناء مستوطناته وتوسيعها ويعرض خرائطه التوسعية على حساب الآخرين وعلى حساب دول بأكملها بوقاحة في المحافل الدولية. يعرف الناس الضرر الذي سيلحقهم في هذه الحالة وكيف سيعيشون خانعين وخاضعين في بلادهم. لن يهدأ المشروع الصهيونيّ إلّا بإخضاع الجميع وجعلهم عبيداً أذلّاء، أو بهزيمته.

لا عدالة مع مستعمر ولا مستبد

قد يعول البعض على حالة الاستسلام للمصير في بلاد أفقرها حكامها وأنظمتها لدرجة بات الناس يعيشون ليومهم دون التفكير بالغد ودون الانتظام في مشروع سياسيّ تغييريّ، لنجاح دعايات وأوهام السلام مع العدو ولكن هذا التعويل لن ينجح في لحظة حاسمة من التاريخ حيث يقتل الناس على مرأى البشر جميعاً، فحين يجد الناس أنفسهم تحت براثن المشروع الصهيونيّ الإجراميّ، احتلالاً أو إخضاعاً، سيكون السياسيّون، والإعلاميّون المأجورون، المروّجون لهراء التطبيع «السلام» قد ركعوا للمستعمِر (وهذا دأبهم)، بينما لن يجني الناس المحكومون سوى تبعات إجرام المستعمِر إذ لا سلام دون عدالة، ولا يمكن أن تقوم عدالة مع مُستَعمر أو مستبد.

معادلة الداخل والخارج

ما زالت المعادلة التي تربط بين منعة البلاد ووحدتها الداخلية والتفاف الناس حول مشروع وطني حقيقي لبناء الدولة عبر حوار وطني جامع لا يستثني أحداً ومشاركة سياسية واسعة ومجتمعية، وإمكانية إفشال محاولات التدخلات الخارجية ومحاولات فرض حلول الأمر الواقع من القوى المهيمنة، ما زالت هذه المعادلة صحيحة وتثبتها يوماً بعد آخر الوقائع الجارية.

تحاول «إسرائيل»، رسم حدود معادلة جديدة في الجنوب السوري، وتجد في الأحداث المتلاحقة في سورية (في السويداء وقبلها فيما حدث في الساحل وجرمانا وصحنايا... إلخ) هدية لا يمكن رفضها؛ تستخدمها كذرائع تحت تسميات مختلفة لتقول بأنها «حاضرة على الأرض»، باستخدام نهج بات معروفاً: تصعيد التهديدات والتصريحات، للحصول على تنازلات كبيرة. في المقابل يتقاذف السوريون السباب والشتائم والاتهامات بالعمالة لها، فتبدو مهمة تحديد الطرف الأكثر مساهمة في هذه الهدية صعبة للغاية.

«إسرائيل» عدو وليست جاراً

تكمن المشكلة الحقيقية هنا هو اختيار «الحل الأمني» بديلاً عن «الحل السياسي» مما يوسع تلك الشروخ التي كرستها عقود من سياسات وممارسات السلطة الساقطة سابقاً بين أبناء المجتمع، فتصبح إسرائيل بهذه الحالة، حسب ما يعتقد البعض، طوق نجاة، إضافة إلى الضجيج الذي مارسه الإعلام ووسائل التواصل، من شحن وتجييش وصل إلى ما يشبه الهستيريا، لتصبح البلاد على حافة هاوية إمكانية انقسام عميق، وتضحي سيناريوات «الناشطون» والذباب الإلكتروني المتداولة تحت مسميات مختلفة، سواء أقاليم طائفية أو قومية، أو ممرات مرتبطة بإسرائيل، وغيرها من المشاريع، أمراً يمكن تحقيقه ببساطة، ضمن السيناريو الذي تريده وتعمل عليه «اسرائيل». يعتقد هذا البعض أنه يمكن تغيير البوصلة الوطنية للناس عبر إغراقهم في التفاصيل والأخبار الكاذبة المتدفّقة على خلفية الأحداث المتصاعدة والمستمرة ومحاصرتهم بمشاعر الرعب والخوف من الآخر، فينسى الناس بذلك أن «اسرائيل» كيان وليست دولة وأنها عدو وليست جاراً.

«جسر الحرية - ومبنى البرلمان»

يسقط هذا السيناريو ببساطة عندما تتوفر الإرادة السياسية وتتجسد بمحاورة الناس ومعرفة مطالبهم التي اختصرتها شعارات وجمل قصيرة وبسيطة كتبت بخط اليد على يافطة صغيرة وعلقت على جدار مبنى البرلمان السوري «مطالبنا: 1- حوار وطني للجميع 2- مبادرة وطنية لوقف إطلاق النار على جميع الأراضي السورية 3- حماية السوريين على الاراضي السورية كافة 4- (إسرائيل) عدوتنا جميعاً 5- الجيش مسؤول عن حماية كافة السوريين 6- إنهاء لغة العنف»، تعبر هذه المطالب واليافطة التي حملتها بعمق عن مطالب ومشاعر السوريين الحقيقية لذلك جرى تداولها بسرعة وبكثافة، كما جرى تداول صورة أخرى لشباب وشابات حملوا يافطاتهم فوق جسر «الحرية»، كما جرى تسميته مؤخراً، في قلب العاصمة دمشق، كتب عليها «دم السوري على السوري حرام، إما ان نعيش معاً كإخوة أو أن نموت معاً كالحمقى». ثمة رمزية صارخة في الأماكن المذكورة وأسمائها، ربما لم يدر حتى في خلد من قام بها المعنى العميق الذي تحمله، «جسر الحرية - ومبنى البرلمان».

مطالبنا

يريد السوريون دولة مواطنة ذات سيادة فعلية، تحفظ الدول سيادتها بتبنّي مصالح أبنائها وتحقيق رضاهم الاجتماعي عنها وليس بمحاولات إرضاء الخارج، دولة يجري فيها الاتفاق مع كل الأطراف، دولة تستمد شرعيتها بالدرجة الأولى من ناسها وأهلها المنظمين بعقد اجتماعي حقيقي مبني على أساس حل سياسي يوفر المشاركة السياسية للجميع عبر الحوار الوطني ويقطع السبيل أمام الاستقواء بالخارج.

ولا يريدون دولة تنكفئ عن الدفاع عن أرضها وناسها، وترضخ للمشروع الاستيطاني الإجراميّ أو تسانده، لأنها إن فعلت فهي ترسّخ تفكّك المجتمع إلى جماعات، وتزيد من التبعيّة الخارجيّة لكلّ جماعة على حدة؛ لأنها إن فعلت فكأنها تقول للناس: تصرّفوا، أنا لا شأن لي لا بحياتكم، ولا بحاضركم، ولا بمستقبلكم.

التحدي والفرصة

قد يبدو الوضع قاتماً، ولكنّ الزمن الملائم لبناء مشروع وطني حقيقي قادر على حماية الحدود وحفظ كرامة الناس، واستعادة الثقة بقدرتهم على الدفاع عن أرضهم وحياتهم، وبناء دولة قادرة بناسها ومقدّراتها، ثمّ علاقاتها، على فرض سيادتها.

ثمة من يريد هزيمة روح الإنسان وقدرته، ليس في سورية فحسب، بل في العالم أجمع، ثمة من يريد أن نرضخ لآلة توسيخ الدماغ الإعلاميّة الغربيّة. وبينما تتصاعد الدعوات في شعوب العالم لمقاطعة كيان العدوّ، يهرول البعض هنا وفي المنطقة للتطبيع، وخيانة الروح والبلاد. ولكن الناس بالفعل يحبون البلاد، يحبون بلادهم حرّة، وكما كتب أحدهم: «نحبها هذي البلاد، نحبها كما هي بعجزها، وجرحها، نحبها لأنها قلعتنا الأخيرة».

معلومات إضافية

العدد رقم:
1235