الحاضر الغائب
إيمان الأحمد إيمان الأحمد

الحاضر الغائب

لم يدر في خلد غسان كنفاني الذي مرت ذكرى اغتياله في 8 تموز الجاري، أن ما كتبه سيستمر وسيصبح جزءاً من تاريخ النضال العالمي ضد كل ما هو قبيح وقميء. وأن كلمات شخصياته ستعيش لنقرأها ثانية ونتفكر في قضايانا الجارية بعد مرور عدة عقود على استشهاده.

«تتكلم انت عن الحبوس، طول عمرك محبوس أنت توهم نفسك يا بن العم بأن قضبان الحبس الذي تعيش فيه مزهريات، حبس، حبس، حبس، أنت نفسك حبس، فلماذا تعتقدون أن سعد هو المحبوس، محبوس لأنه لم يوقع ورقة تقول أنه آدمي، آدمي، كلكم وقعتم هذه الأوراق بطريقة أو بأخرى ومع ذلك فأنتم محبوسون»، بكلمات بسيطة يعرض كنفاني فلسفته عن الحياة على لسان إحدى أهم شخصيات رواياته أم السعد والتي عندما نقرأ عنها ونقرأ ما تقوله، نشعر أنها أمنا كلنا، تنطق هذه المرأة البسيطة بما نشعر به في أحايين كثيرة، تعبّر كلماتها عن وجعنا رغم المسافة الزمنية التي تفصلنا عنها إلا أننا نستشعر صدى كلماتها ونحس أنها واحدة منا.

«أتحسب أننا لا نعيش في الحبس؟ ماذا نفعل نحن في المخيم غير التمشي داخل ذلك الحبس العجيب الحبوس أنواع يا ابن العم؟ أنواع المخيم حبس وبيتك حبس والجريدة حبس والراديو حبس والباص والتاريخ وعيون الناس حبس أعمارنا حبس والعشرون سنة الماضية حبس والمختار حبس...» ، تقولها أم السعد ونشعر بغصة الكلمات البسيطة المعبرة عن واقع آخر في زمان آخر، تثبت بها حقيقة أن الكاتب يصبح عظيماً عندما يتجاوز زمنه، وعندما يتمكن من رصد حركة التاريخ عبر امتلاكه لوعي مغاير للوعي السائد، وعي مرتبط بالناس والواقع، ويقين بأنه يكتب لهم من خلالهم وأن كتاباته وإبداعاته ما هي إلا جزء من نشاط واعٍ ومستمر، ولها دور وظيفي قد يكون مرحلياً أو مستشرفاً ولكنه يستمر عبر أجيال.

في صفحة واحدة من رواية أم السعد، يجسد كنفاني فلسفة عميقة على لسان امرأة بسيطة تمثل اتجاهاً واضحاً وعميقاً في الوعي الجمعي الفلسطيني القائم ليس على فكرة المقاومة والبطولة فقط، بل على الوعي العميق بما يدور حولها، فهي تسترسل في شرح «أنواع الحبوس» وتحدد سمتاً فاصلاً بين حبس وحبس كما حددت في مقطع آخر السمت الفاصل بين خيمة وأخرى.

استشهد غسان كنفاني في 8 تموز 1972 في بيروت، ودفع حياته ثمناً لإبداعه وكتاباته وما تضمنته من مواقف تجاه الوقائع والأحداث التي عاشها عصره وزمانه. وتعيد لنا ذكرى استشهاده الرغبة في قراءة إنتاجه الأدبي ليس على سبيل الاستمتاع، بل على سبيل إيجاد إجابات عن كثير من الأسئلة التي لم تحلها الحياة بعد.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1234