أفكار متقاطعة

أفكار متقاطعة

في الموروث الشعبي السوري، كثيراً ما تتردد عبارة «الطاسة ضايعة» لوصف حال من الفوضى وفقدان الاتجاه. يُقال هذا المثل حين تتداخل الأمور وتضيع المسؤوليات، فلا يعود هناك من يعرف أين تبدأ المشكلة، أو من يتحمل تبعاتها. وفي ظل الانهيارات التي تشهدها سورية منذ أكثر من عقد، يمكن القول: إن «الطاسة» قد ضاعت فعلًا، ومعها تاهت البوصلة الشعبية، وغرقت التفاصيل اليومية في بحر من الفواجع، حتى أصبح من الصعب رؤية الصورة الكبرى.

البحث عن الديك والقلة الكثيرة

ما يحدث في سورية ليس فقط مشهداً دامياً من الدمار والشتات، بل هو أيضاً أزمة في إدراك جوهر المشكلة. فوسط زخم الأخبار والانتهاكات والدماء المسفوكة، يصبح الإنسان العادي مشغولاً بملاحقة الحدث المتجدد، دون أن يرى ما وراءه من جذور وأسباب. ومع كل ارتفاع جديد في منسوب الألم، تنفجر الغرائز البدائية، ويتحوّل الصراع إلى ما هو طائفي أو قومي، ما يُفقد القضية بُعدها الإنساني والسياسي، ويجعل أفق الحل يبدو أكثر بعداً وتعقيداً.

ابحثوا عن الديك

من الحكايات الشعبية التي تحفظها ذاكرة الأجداد، تبرز قصة الرجل الذي جمع أبناءه الثلاثة قبل موته وأوصاهم باللجوء إلى صديقه الحكيم إذا ما واجهوا أي مشكلة. وبعد وفاته، سُرق ديك من العائلة، فرأى أحد الأبناء أن لا داعي للقلق لأن الديكة كثيرة، بينما أصرّ الآخر على استشارة صديق والدهم احتراماً للوصية. كانت نصيحته واضحة: لا تتهاونوا، ابحثوا عن الديك، فإن السكوت على الصغائر هو بداية الانحدار.

لكنهم تجاهلوا النصيحة. وسرعان ما سُرق منهم الجمل، ثم قطيع الغنم، وبدأت الخسائر تتراكم. وكلما لجأوا لصديق والدهم، كان يكرر نفس الجواب: «ابحثوا عن الديك». لم يكن يقصد الديك بذاته، بل مبدأ العدالة والانتصار للحق من اللحظة الأولى. وعندما وجدوا الديك أخيرًا، تبيّن أن سارقه هو ذاته من نهب بقية الثروة. هنا تظهر حكمة المثل: إن التساهل مع الظلم الصغير يفتح الباب لجرائم أكبر، وإن ضياع التفاصيل الأولى يجرّ إلى كوارث يصعب تداركها.

الطاسة السورية الضائعة

ما يحدث في سورية اليوم هو نسخة كبرى من حكاية الديك. القضية الأساسية التي بدأت كحراك شعبي يطالب بالحرية والكرامة، تحوّلت بفعل فاعلين داخليين وخارجيين إلى صراعات طائفية ومصالح إقليمية ودولية. وغُيّب الشعب السوري من المشهد، فبات رهينة لأمراء الحرب، والجوع، والتشريد، والبرد، والقهر، وسط خريطة معقدة من التدخلات والتحالفات.

ضحايا بالملايين، وملايين أخرى من المهجّرين والمغيبين، ووطن مهدد بالتقسيم، وكل هذا ليس سوى النتيجة المباشرة لغياب الشعب عن مركز القرار، ولفقدان المبادرة أمام طغيان السلاح والغريزة والخارج.

نحو استعادة المبادرة

وسط هذا الخراب، يظل هناك بصيص أمل في القوى العقلانية داخل المجتمع السوري. هذه القوى، التي لم تغرها الانقسامات الطائفية، ولا الحسابات الإقليمية، تُمثل الضمير الوطني الحقيقي. فعندما اندلعت أعمال العنف في السويداء، كانت هناك (قلة) من الشبان والشابات يعتصمون أمام مجلس الشعب ويرفعون لافتات تقول: «دم السوري على السوري حرام»، وترفض الطائفية، في مشهد لافت يعبر عن الوعي العميق والانتماء الصادق.

هذه القلة كثيرة في الواقع، بل هي الأغلبية السورية التي ينبغي استنهاضها لتقول كلمتها، وهي أغلبية حقيقية تجمعها المصالح المشتركة والمصير المشترك.

الطريق إلى الحل يبدأ من هنا: من استعادة المبادرة الشعبية، ومن إعادة الشعب السوري إلى مركز الفعل، وليس إلى هامشه. وهذا يتطلب صياغة شعارات ومبادرات تواكب الظرف الراهن وتلامس هموم الناس، مثل: حملة وطنية ضد الطائفية، أو مبادرات شعبية تؤكد قدسية الدم السوري، بعيداً عن كل خطاب كراهية أو انتقام.

قوة المثل والنموذج

هذه القوى الشعبية ليست غائبة، بل منهكة ومُستنزفة. لكنها موجودة، وتحتاج فقط إلى من يُشعل فيها شرارة الفعل، ويقدّم لها النموذج والمثل في السلوك والمعرفة والقيم. فإذا وُجد هذا النموذج، وبدأ في التجمع والعمل الميداني، فإن مفعوله سيكون كبيراً، وربما يُغيّر مسار الأحداث.

إن عملاً نوعياً بهذا المستوى يمكن أن يعيد فرز القوى في سورية، ويوجّه الصراع نحو بُعد حضاري وسياسي بدلاً من الاستمرار في العبثية والانقسام. ولعل إعادة بناء الحياة السياسية على أسس برامجية، وإعادة الاعتبار للقوى العقلانية والوعي الجمعي، هو المدخل الأساسي لإعادة الإمساك بـ»الطاسة» التي ضاعت، والبدء في البحث الجدي عن «الديك» الذي كان إهماله سبباً في ضياع كل شيء.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1235