حديث الأمهات

حديث الأمهات

في مسلسل الزير سالم للراحل حاتم علي، تنطق ضباع وهي إحدى أهم الشخصيات التي عانت من فجيعة الفقد في الحرب «الملعونة» بجملة بسيطة لكنها تختزل بعداً إنسانياً عميقاً: «الأم أم يا ولدي» وفقط.

ليس ثمة كلمات قادرة على وصف الألم الذي يمكن أن تشعر به امرأة وأم لتسعة أطفال نُقلت جثثهم المتفحمة إلى مكان عملها كطبيبة أطفال في المشفى. الطبيبة الفلسطينية آلاء النجار اختصاصية طب الأطفال في مستشفى التحرير بمجمع ناصر الطبي، «خرجت مع زوجها الدكتور حمدي النجار ليوصلها إلى عملها، وبعد دقائق فقط من عودته، استهدف صاروخ منزلهم. استُشهد تسعة من أطفالهما العشرة والذين لم يتجاوز أكبرهم 12 عاماً وبقي طفل وحيد مصاب وزوجها الذي يرقد في العناية المركزة». وتسهب التغطية الإعلامية في وصف الغارة والحريق وكيف جرى نقل الشهداء الصغار إلى المشفى... إلخ.

تنقل وسائل الإعلام الخبر المفجع لدرجة الوجع، وتضيفه إلى قائمة طويلة من أخبار الموت المستمر في غزة على يد عدو يزداد شراسة مع ازدياد أزماته الخانقة، والتي يبدو أنها وصلت إلى حدودها القصوى، في زمن يشهد تحولات كبرى على المستوى العالمي.

ثمة حقوق لا يمكن ولا يجوز التفريط بها، يعرف الفلسطيني أكثر من غيره هذه الحقيقة، ورغم مأساوية معاناته التي تجاوزت حدود المنطق لأجيال عديدة إلا أن الحكاية المركزية لم تعد مجرد قصة بطلها عدّاد الموت المتداول على وسائل الإعلام، كما يريد العدو ويحاول تسويقها وترويجها من أجل بث الرعب في القلوب وتحويل الهزائم إلى انتصارات، بل هي قصة الإنسان الفلسطيني، وقصة وجوده، ليس كفرد واحد بل كمزيج من تجارب متعددة لأشخاص عاشوا المعاناة نفسها. بحيث تصبح الحكاية الخاصة جزءاً من الذاكرة الجمعية.

تتشارك الأمهات الهموم والأوجاع. ويشاركن الأم المفجوعة حزنها، فقط لأنهن أمهات. ثمة أفكار ومشاعر تستمر عبر الزمن، يحملها الوعي الجمعي محتفظاً بجوهرها، وينقلها عبر الأجيال. يقدم الواقع الفلسطيني المشتبك بالذاكرة الجمعية رؤية عميقة للمعاناة المستمرة عبر حكايات خاصة وحميمية، بهذا المعنى تتحول فلسطين إلى فكرة والفكرة لا تموت.

تحمل الفكرة معنى النضال بشكل أساسي. ليس كشعار بل كقناعة عند الإنسان الفلسطيني، قناعة بحتمية الانتصار وتحصيل الحقوق والعودة إلى أرضه، فيدفعه للسعي الدائم إلى إيجاد طرق للاستمرار، وتطويع المستحيل وتحويله إلى ممكن وواقع معاش. يستخدم أدوات بسيطة، مستوحياً الخيال، يبتكر مفاهيمه الخاصة. تنعكس هذه المفاهيم لتصبح قذائف وصواريخ، أو تتحول إلى نوافذ، أو أبواب، وقد يصنع مناطيد تغيّر شكل العالم وتستقطب أنظاره. بعيداً عن الجغرافيا تصبح فلسطين فكرة تستقطب وجدان الشعوب، تصبح فلسطين أكثر من مجرد مكان، إنها رمز حيّ للنضال المستمر ضد الموت والظلم.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1228