إعادة بناء المعنى
ثمة حاجة ماسة اليوم للثقافة في سورية، على عكس ما يعتقد كثيرون، أكثر من أي وقت مضى. حاجة تفرضها الظروف الدقيقة وشديدة الحساسية التي تمر بها البلاد، وحالة الاستقطاب السياسي التي تتوارى خلف استقطابات أخرى تهدد وحدة البلاد الثقافية قبل الجغرافية.
ومع ذلك، ما زالت فعاليات وزارة الثقافة في سورية تعتمد طريقة الارتجال والتجريب في ظل غياب برنامج حكومي واضح المعالم، وغياب مشروع ثقافي جامع وواضح تستعيد من خلاله الثقافة توازنها ودورها في بناء هوية وطنية جامعة في سورية الجديدة.
فقد «احتضن مسرح دار الأوبرا بدمشق فعالية (صور من التراث السوري) نظّمتها وزارة الثقافة على مدى يومين، احتفاءً بالتنوع الثقافي في سورية، عبر عروض فنية غنائية وراقصة تعبر عن غنى النسيج الاجتماعي السوري وتعدديته»، كما وصفتها وسائل الإعلام السورية التي نقلت الخبر. «وتميّز برنامج الفعالية بتقديم لوحات موسيقية وغنائية مثّلت مكونات الثقافة السورية، من الأنغام الفراتية والإيقاعات الشركسية، إلى الأغاني الكردية، والألحان السريانية، والموسيقا الأرمنية، في تناغم فني يبرز التعدد الثقافي السوري بوصفه رصيداً وطنياً مشتركاً. وقدّم عدد من الفنانين مجموعة من الأعمال المستوحاة من الذاكرة الغنائية السورية، استطاعت أن تلامس وجدان الجمهور وروحه. وشكّل العرض الراقص أحد أبرز ملامح الأمسية، حيث تميّز كل لون ثقافي بزيّه التراثي الخاص، مبرزاً التنوع الثقافي كأحد مميزات الهوية السورية».
قراءة متعددة الجوانب
هناك حاجة ملحة لمزيد من النشاط الثقافي إضافة إلى النشاط السياسي والاقتصادي والاجتماعي... إلخ. خاصة في بلد شديد الغنى والتنوع مثل سورية، مما يجعل الفعاليات الثقافية ممكنة ومتعددة ومتنوعة. ولكن يكمن السؤال هنا عن بنية المشروع الثقافي الذي تحتاجه البلاد وحوامله الاجتماعية والاستحقاقات اللازمة لتنفيذه... إلخ. إذ لا تكفي مثل هذه التظاهرات الفنية لبناء سياق متكامل وشامل يضمن الوحدة ضمن حالة التنوع والاختلاف، بل يستلزم قراءة متعددة الجوانب وأكثر عمقاً في عالم لم تعد الهوية الثقافية فيه مجرد مسألة وجود رمزي، أو تمايز حضاري لمجموعة من المجموعات البشرية، أو لمجتمع متفرد في وجوده ومتميز عن غيره،
بل أصبحت في قلب التوترات الكبرى التي تشارك في صياغة التحوّلات الاجتماعية على مستوى العالم من جهة، ووحدة تحليل حيوية تتجاوز بعدها الأنثروبولوجي أو الفولكلوري، إلى قضية استراتيجية وسياسية، بل وربما وجودية من جهة أخرى.
الحلقة الأضعف
ومن هذا المنظور لا يكفي الحديث عن «معرض حرف يدوية تراثية حظي باهتمام واسع لما تمثّله هذه الحرف من قيمة ثقافية واقتصادية مزدوجة» أو الحديث عن «فعالية جاءت لتعزيز التنوع الثقافي وصون الهوية الوطنية الجامعة، عبر إبراز غنى الموروث الثقافي السوري بمختلف أشكاله». بل ثمة حاجة للتفكير والبحث الجدي ومشاركة كل السوريون في هذا البحث حول ما تحتاجه سورية وأجيالها الشابة والجديدة ثقافياً وتربوياً وفكرياً... إلخ، خاصة أن الشباب في المجتمعات المنهكة من الحروب والفقر والقهر الاجتماعي وغيرها هم الحلقة الأكثر هشاشة أمام المفارقات والثنائيات التي يفرضها عليهم الواقع، حيث يُطلب منهم، من جهة، الحفاظ والتمسك بهويات فرعية كـ«القومية، الدينية...» ومن جهة أخرى، يتعرضون بشكل يومي للفضاء الرقمي المليء بالخطابات العابرة، والمغريات الهوياتية البديلة، مما قد يجعلهم فريسة لحالة من «قلق وجودي»، يعبرون عنه بأشكال مختلفة منها النزوع إلى أشكال من التطرف، أو التماهي المفرط مع الهويات الرقمية، حيث يتماهون مع تمثيلات رقمية محدودة، قائمة على الصورة والانطباع اللحظي مما يفتح الباب أمام التفكك الداخلي للهوية، وما يعرف بـ«التشيؤ الذاتي»، حيث تتحول الذات إلى «منتَج رقمي» قابل للتسويق والتعديل وفق اتجاهات السوق والمنصة. كل ذلك بهدف الوصول لشيء من الثبات واليقين.
تطرح في هذا المجال أسئلة كثيرة جادة ومحقة حول كيفية إعادة بناء وإنتاج المعنى، وإعادة الاعتبار للهوية كمنظومة قابلة للتجديد والتطور والاستثمار في البنى التربوية والثقافية لإعادة تمكين الأجيال من أدوات البحث والفهم النقدي للذات «في ارتباطاتها وتحولاتها» والعالم. وتحويل الثقافة المحلية إلى رأس مال يمكن الاستفادة منه لبناء سورية التي يستحقونها.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1225