الشعبوية... أسئلة صحيحة وإجابات خاطئة

الشعبوية... أسئلة صحيحة وإجابات خاطئة

يختلف تعريف الشعبوية، تبعاً لمدارس الفكر السياسي وموقفها من دور العامّة في حركة التاريخ، وانخراطها في النشاط السياسي، بين من يستند على المزاج الشعبي العابر، وردود الأفعال، ويركب كل موجة صاعدة، ويسير في ذيل الحركة العفوية للجماهير الساخطة، وبين من يحلل الواقع وفق رؤية علمية، ويستنتج على أساسها المهمات الملموسة، أمام الحركة الشعبية.

في الممارسة تتعدد طرائق التعاطي مع هذه الظاهرة التاريخية بين من يستثمر فيها كما هي، ويحاول توظيفها لتحقيق أجندات سياسية، تتناقض مع المصالح العميقة للشعب، وبين من يجد في الحركة الشعبية ظاهرة تاريخية مركّبة تستدعي تفهّمها من جهة، ونقدها من جهة أخرى، ويسعى إلى تنظيمها على أساس برنامج سياسي، وقيادة تتفاعل معها تأخذ منها الروح الكفاحية والعملية، تتعلم منها، وتمدها بالتجربة والخبرة التاريخية.
تفشي النزعة الشعبوية في أي مجتمع دلالة على وصول النظام السياسي إلى طريق مسدود من جانب، وعجز الحركة السياسية التقليدية من جانب آخر، وهي إحدى تجليات وخصائص المرحلة الانتقالية ما بين موت القديم وولادة الجديد.

ما يهمنا هنا النسخة السورية من الشعبوية، وما فعلته وتفعله نخب السياسة والثقافة في توجيه الوعي الاجتماعي العام استناداً إلى محاكاة حاجات السوريين الملحة والآنية، في ظل الأسئلة الملحة التي طرحت نفسها على السوريين، دون أن يمتلكوا إجابات حقيقية، وفي ظل حالة الإنهاك التي تعاني منها كل عناصر البنية، وما نتج عنها من حالات قلق وترقب وتشكيك والخوف من القادم وغيرها من المظاهر السلوكية النفسية التي تشكل بيئة مناسبة لتسويق أي شعار وأي موقف، فجهاز الدولة العاجز، والصدمات المتلاحقة، ومتوالية الخذلان التي طبعت حياة السوريين خلال عقود وخصوصاً في سنوات الحرب، ولم ينج منها أحد من السوريين، شكلت مساحات رخوة سهلة الاختراق، لما هب ودب.

في جذر المشكلة

الشعبوية ليست مجرد ظاهرة نفسية ثقافية كما تبدو لأول وهلة، فالجانب الثقافي – النفسي هنا، هو الشكل الخارجي الذي ينطوي على محتوى اقتصادي اجتماعي، سياسي، هي رد فعل على واقع مشوه، هي كيمياء كل التشوهات المتراكمة في البلاد على مدى عقود، هي إحدى مخرجات سياسات إدارة الأزمات دون حلها على يد السلطة الساقطة، من محاولات الضبط القسري للمجتمع، وإنهاء الحياة السياسية، ونموذج اقتصادي تابع قائم على مبدأ الزبائنية والعطايا، وتقاسم الثروة الوطنية المنهوبة بإدارة الفساد كناظم للعلاقة بين أركان السلطة من جهة، والسلطة وزبائنها من جهة أخرى، والسلطة ورأس المال المعولم من جهة ثالثة، وما نتج عن ذلك من نسق ثقافي قائم على مبدأ التقية، ولاء وتملق وتصفيق في العلن، ورفض وازدراء وكراهية في السر.

حوامل الخطاب الشعبوي

حاولت نخب الصراع على السلطة، أن توظف الخطاب الشعبوي لتبرير سلوكها في سياق الصراع، ولم تتورع هذه النخب عن استخدام أكثر جوانب الشعبوية انحطاطاً سواء من قبلها مباشرة، أو عن طريق أبواقها من الكتبة والإعلاميين المتثاقفين الذين دخلوا في معارك حامية الوطيس على المنابر الإعلامية، استخدموا فيه كل قدرتهم على التفاصح للتحايل على الرأي العام بغية استقطاب الناس وضبط توازن القوى في المجتمع لصالحها.

نموذج المثقف المأزوم أيضاً وجد ضالته في النزعة الشعبوية كفرصة ذهبية، ليجد لنفسه حيزاً، يعوّض الأنا المقهورة والمستلبة، والفشل المعرفي والإبداعي، والافتقار إلى أدوات التحليل العلمي، فأصبح أحد أهم الحوامل الدعائية لهذه النزعة، مستفيداً من إمكانات الإعلام الرقمي في الترويج والتسويق، ليكون لسان حال الشعبوية كسياسة هابطة على غرار الفن الهابط الذي يؤمّن التصفيق والنجومية في لحظة ما، سرعان ما تخبو وتضمحل في ظل الإيقاعات المتسارعة للأحداث... إن التحولات التي شهدها نموذج المثقف الشعبوي منذ انطلاق الحركة عام 2011 وحتى اليوم تكشف عن قدرة على التثاقف، من خلال خطاب ذرائعي تضليلي، وفي الوقت نفسه عن جهل بخصائص سورية، وبنية قيمية أنانية وانتهازية، أنا متورّمة تستعلي على الآخر، بالتوازي مع دونيّه تجاه الخارج، أوفي أفضل الأحوال أمية سياسية محمولة على نوايا طيبة ونزعة أخلاقية وجدانية لاعلاقة لها بعلم الاجتماع السياسي، وتعقيدات الحركة الاجتماعية وتناقضاتها، وبنيتها، واتجاهات تطورها المفترضة في بلد مثل سورية.

أما وقود الصراع كانت شريحة المهمشين وخصوصاً الأجيال الشابة، التي دفعتها حالة القهر والاستلاب الذي تعاني منه إلى تبني الخطاب الشعبوي والتماهي معه، ووجدت فيه فرصة لترميم عالمها الروحي المدمر... هذه الشريحة التي سدت في وجهها كل الأبواب، وتعيش حالة اغتراب مركب، تمتلك شحنات ثورية هائلة، وتسعى إلى الانتقام من كل شيء، ولكنها في الوقت نفسه تفتقر إلى التنظيم والتجربة، في ظل بنية اجتماعية سياسية هشة، حيث ثنائية الفساد والقمع كانت وما زالت تتحكم بكل شيء، فتحولت من حيث لا تدري إلى إحدى أدوات تجارب الهندسة الاجتماعية، وهي والحال هذه، المعادل الموضوعي للفوضى.

الشعبوية الآن

منذ انهيار السلطة السابقة في 8 ديسمبر 2024، يحاول الشعبويون إعادة إنتاج خطابهم وفق الظرف الناشىء، السيناريو ذاته يتكرر حيث السلطة الجديدة وبسبب بنيتها عاجزة عن القيام بدورها المطلوب، لا بل إن بعض أجنحتها تستكمل تماماً سياسات السلطة البائدة، انتعش الخطاب الشعبوي مجدداً، ولكن هذه المرة تفرخ إلى شعبويات متعددة

الشعبوية في أحد جوانبها نتاج لغياب دور فعلي لجهاز الدولة لمصلحة السلطة، وهو ما أدى إلى ارتكاس الوعي الاجتماعي إلى انتماءات ما قبل الدولة، حتى أصبحنا أمام حزمة شعبويات قومية ودينية وطائفية ومناطقية، تبدو متنافرة ولكنها تتخادم على الدوام كل منها يغذي الآخر بمبررات وجودها، ويقدم لها الذرائع... لتتحول الحركة الشعبية من طبيعتها ولكونها قوة اجتماعية متحررة تتحدى بها الجماعات المهمشة أجهزة السلطة المهيمنة، إلى أداة وظيفية بيد النخب، لتأبيد سلطتها أو مكانتها الاجتماعية، وبيد الخارج ومشاريعه.

كل مرحلة يسود فيها الخطاب الشعبوي، تعقبها حالة فراغ، لأن الأحداث المتسارعة والتجربة الملموسة للناس تكشفان عن سطحية هذا الخطاب وعجزه عن الإجابة عن الأسئلة المعقدة التي يفرضها الواقع، وبؤس وانحطاط النخب التي تتبناه، ويصبح الظرف موضوعياً مناسباً لإعادة فرز القوى على أسس صحيحة تعكس المصالح الفعلية للناس، بشرط وجود قوى سياسية جادة، تمتلك منصة معرفية علمية، تساعد على تفسير صحيح لتناقضات الواقع، وبنفس الوقت ترجمة ذلك إلى لغة بسيطة يفهمها الناس، وممارسة ميدانية، ومنظومة قيمية كالغيرية ونكران الذات والصدق والصراحة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1221