الرهان أولاً على الناس
إيمان الأحمد إيمان الأحمد

الرهان أولاً على الناس

«البارودة مثل الحصبة، تعدي، وعندنا بالفلح كانوا يقولون إن الحصبة إذا أصابت الولد فهذا يعني أنه بدأ يعيش، وأنه صار مضموناً»، هذا ما قالته أم سعد، «التي تقف الآن تحت سقف البؤس الواطئ في الصف العالي من المعركة، وتدفع، وتظل تدفع أكثر من الجميع». كما وصفها غسان كنفاني في روايته.

بارودة هو كل ما احتاجه السوريون، لإعادة ترتيب أوراقهم، والتأكيد على إمكانية الحل، وعلى إمكانية الاختيار بين واقعين، يملأ أحدهما ضجيج اليأس والفرقة والانقسام، بينما يدعو الثاني إلى الوحدة والبناء. هكذا اعادت بارودة أبناء الجنوب السوري فتح صندوق الذاكرة الجمعية السورية على قواسم مشتركة وأعادت الكشف عن مخزون جمعي لا تخطئ بوصلته في معرفة العدو الحقيقي. وصححت مسار التصويب على مكان آخر، هو مصدر الهزيمة الأصلية والبؤس الأصلي.

شيفرة ودلالة على موقف

في رواية أم السعد لا يكتفي كنفاني بتحويل السلاح إلى معادل جمالي للحياة الحرَّة. بل يهدي روايته (أم سعد) إلى أم سعد، مقدماً بذلك رسالة لها دلالات عميقة يظهره النص الكامل للإهداء «إلى أم سعد، الشعب المدرسة»، توضح تفاصيل الرواية وحوارات شخصياتها أمثولة الشعب المعلم، في رسالة «غرامشية»، إلى النخب المنفصلة عن الناس وعن الشعب رغم استخدامها المتكرر له في طروحاتها، آملة في تعلّم هذه النخب أن الشعب هو المدرسة والنظرية الحقيقية وأنه يطرح نظريته بالممارسة المباشرة وليس بالكلام فقط. يؤمن كنفاني بتكامل الأدوار بين الشعب وطليعته أو مثقفه الثوري، مثقف يؤمن بمدرسة الجماهير ولا يبخسها حقها تقول أم السعد: «أنت تكتب رأيك، أنا لا أعرف الكتابة، ولكني أرسلت ابني إلى هناك، قلت بذلك ما تقوله أنت أليس كذلك؟». لا تقف أم السعد مكتوفة الأيدي بل تأخذ موقفاً، وتقول كلمتها بإرسال ابنها وفلذة كبدها، إلى العمل المسلّح، ليكتب بدمه حكاية شعب يرفض الاستسلام، ويستبدل اليأس والإحباط بالأمل في تحقيق النصر.

بلغة واضحة وشفافة يصف غسان نهوض المخيم وانتفاضه على البؤس وإعلان رفض الهزيمة، من خلال دخول العمل الفدائي إلى المخيمات، يشرح تهاوي القواعد الاجتماعية والقيم القديمة التي كانت من أسباب الهزيمة، ويعلن عن قيم أخرى ثورية مستمدة من واقع جديد يرفض المهادنة والاستسلام للقدر. تصبح رصاصة ابنها تعويذة للتغير. تستبدل أم سعد حجابها القديم الذي كتبه لها شيخ ما برصاصة سعد المخبأة في فراشه، تقول معبرة عن وعي فطري: «صنعه لي شيخ عتيق منذ كنا في فلسطين وذات يوم قلت لنفسي: إن ذلك رجل دجال بلا شك... حجاب، إني أضعه منذ كان عمري عشر سنين، ظللنا فقراء وظللنا نهترئ بالشغل وتشردنا...».

«لا مكان للمحتلّ على أرضنا»

تحمل البارودة رمزية خاصة عندما تتوجه إلى العدو. وتقف في وجه المحتل وتمنعه من تدنيس البلاد. يوقن السوريون أنّ نوى وتل الحارة وكويا وجبل الشيخ... إلخ، ليست مجرد أسماء أماكن وقرى في المنطقة الجنوبية السورية، إنها أسماء تختزل فكرة ومعنى المقاومة وتحرير الأرض، وتنعش الذاكرة ليس فقط حول مواجهة العدو، بل ضرورة توحيد السلاح في هذه المواجهة. وأن الدماء التي روت أرض الجنوب هي رسالة واضحة للعدو وجيشه بأن الأرض السورية محرّمة على المحتلّ وأنه سيواجه بمقاومة شعبية مفتوحة لن تتوقف إلا بتحريرها.
ما يحتاجه السوريون اليوم أكثر من أي وقت مضى هو توحيد صفوفهم. وهو ما عبروا عنه بعد الغارات التي قام بها الكيان الصهيوني مؤخراً على مناطق مختلفة من البلاد، وبالمشاركة الواسعة في تشييع شهداء الجنوب السوري.

بلغة محكمة لا تقبل التأويل، جميلة وسلسة عبر السوريون عمّا يريدونه فعلاً، «تسقط إسرائيل ولا تسقط درعا»، «ولا مكان المحتلّ على أرضنا» عبارات رفعها مشاركون في تشييع شهداء بلدة نوى التي منع أهاليها تقدم قوات الكيان الصهيوني بأسلحتهم الفردية، وأجبرها على التراجع والانسحاب إلى المواقع التي أتت منها بعد اشتباكات عنيفة أقرّ جيش الاحتلال في بيان له بأن قواته لم تتمكن من التوغل داخلها وتعرّضت لإطلاق نار كثيف، وكان رد جيش الاحتلال على مصادر النيران بضربات جوية ومدفعية مكثّفة، طالت المناطق السكنية في البلدة.
وكانت قد سبق ما جرى في بلدة «نوى» ملحمة صمود أخرى قام بها أهالي بلدة «كويا» بريف درعا الغربي، بعد أن واجهوا آليات جيش الاحتلال وأسلحته الثقيلة بأسلحتهم الفردية، ومنعوا تقدم القوات «الإسرائيلية» في بلدتهم، وأجبروها على الانسحاب. ما قام به أبطال هذه البلدات وشهداؤها يثبت أنه يمكن الرهان على الناس وأبناء البلاد، والحياة أثبتت أن الجماهير المقاومة هي القادرة على تحقيق الانتصار وتحويله إلى حقيقة واقعة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1221