اللجوء إلى الآخر
أرخت الأيام القليلة الماضية بظلالها على السوريين، وجعلتهم فريسة شعورين يتناوبان الطرق على جدران القلوب، واستدعاء التفكير والمبادرة إلى العمل. قلق وأمل، قلق مزمن مبعثه عقود من الرضوخ لسلطتي القمع والفساد وسنوات من حرب استنزفت القوى وأنهكت النفوس. وأمل ببناء سورية جديدة قوية وعادلة تمنح وجودهم معنىً جديداً وتعيد بناء ما انكسر في نفوسهم.
لم يخفِ أحد مشاعر الفرح بسقوط سلطة فرقتهم وأذلتهم، ولا مشاعر الترقب والحذر من الآتي، مخاوف محقة من انتزاع نكهة فرح حقيقية يعيشونها لأول مرة منذ عقود. أسئلة كثيرة تطل برأسها وتفرض نفسها على الجميع، ومع ذلك ثمة شعور جمعي يعبر عنه الوصف الذي قدمه غسان كنفاني ذات مرة: «لا تصدق أنّ الإنسان ينمو، لا، إنه يولد فجأة: كلمة ما في لحظة، تشق صدره على نبض جديد، مشهد واحد يطوح به من سقف الطفولة إلى وعر الطريق».
بعد سنوات من تعطيل وتشويه الحياة السياسية في البلاد، سواء بتسطيحها وتمييعها، ومصادرة الحريات السياسية فيها أو إفراغها من محتواها وتفكيكها وإعادة إنتاجها بما يؤدي إلى منع تطورها وتعطيلها في النهاية. وقد أدى ذلك بطبيعة الحال إلى تحجيم التراكم المعرفي الكافي والضروري لتحقيق دوره الوظيفي في إحداث التغيير، يستعيد السوريون أنفاسهم ويحاولون الخروج من مستنقع الأزمة التي تعصف بهم وبالبلاد.
أثبت عقلاء سورية وشرفاؤها جدارتهم في الأيام القليلة الماضية، بعد أن غيبت تأثيرهم قوى الصراع المسلح، من خلال المبادرات الشعبية التي انتشرت على نطاق واسع، قام بها جمهور موزع في مناطق ومواقع اجتماعية مختلفة ومتنوعة، تجاوز فيها الاصطفافات المشوهة التي فرضتها السلطة عليهم سابقاً. فقد نظم الناس أنفسهم وشكلوا في الأحياء لجاناً لحماية بعضهم وحماية ممتلكاتهم بغض النظر عن انتماءاتهم وتأمين الاحتياجات الضرورية والحفاظ على الدوائر والمؤسسات العامة والخاصة من العبث لأنها ملك للمجتمع، وأصدرت الفعاليات الاجتماعية في الأرياف والمدن بيانات تحض الناس على الهدوء وتقبل الآخر وعدم الانجرار خلف الشائعات... إلخ، تحت شعار الحفاظ على سورية وتوحيد جهود الناس في هذا الإطار. كما صدرت بيانات أخرى تستنكر العدوان الصهيوني مؤخراً على الأراضي السورية وتدعو إلى تحريرها.
لم تكتف القوى الاجتماعية بالتعابير اللفظية بل انطلقت مجموعات وفعاليات متعددة للقيام بأعمال ملموسة على الأرض، ورغم بعض الممارسات الفردية المغايرة لما جرى ذكره، إلا أنه ليس سوى دليل واضح، على محاولة الوعي السياسي السوري التحرر من حالة الانكفاء التي مر بها، والتخلص من اللغو الذي ساد على مدى عقود وحجب فعاليتهم.
ينصب الرهان الآن على إعادة الاعتبار للعمل السياسي، وتجميع السوريين وتحويلهم إلى قوة فاعلة لمواجهة الاستحقاقات التي تفرض نفسها عليهم.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1205