«استطلاعاتُ رأي» أم تَلقينٌ وتلاعبٌ بوَعْي النّاس؟
إعداد: نايا سلام إعداد: نايا سلام

«استطلاعاتُ رأي» أم تَلقينٌ وتلاعبٌ بوَعْي النّاس؟

قدَّم كتاب ديفيد دبليو مور الهامّ «صناع الرأي: مُطَّلِعٌ من الداخل يكشف حقيقة استطلاعات الرأي» الصادر عام 2008، مصدراً هامّاً لفضح كثيرٍ من أساليب التلاعُب في الوعي التي تستخدمها الشركات المختصّة بتقديم خدمات «استطلاع الرأي» لأطراف النخبة السياسية الحاكمة في الولايات المتحدة الأمريكية والإعلام الرأسمالي عموماً. وفيما يلي إضاءة على أبرز هذه الأساليب بحسب مراجعة الكتاب من توماس ريغينز، وهو أستاذ فلسفة أمريكي وناشط سلامٍ وحقوق مدنية منذ الستينيّات عندما كان رئيساً لرابطة الشباب الاشتراكيين بجامعة فلوريدا.

عَنْوَنَ مور الفصل الثاني من كتابه بـ«صناعة الرأي العام»، وافتتحه بالإشارة إلى أنّ قطاعات كبيرة من الجمهور تعرف القليل، ولا تهتم كثيراً بالعديد من القضايا التي يطلب منظِّمو الاستطلاعات منهم إبداء آرائهم حولها. نظراً لأن منظمي الاستطلاع يريدون إحداث انقسامات كبيرة في الرأي العام، لأنّ هذا التقسيم بحد ذاته هدفٌ لهم لإثارة اهتمام عملائهم من وسائل الإعلام والمموِّلين.

الاستثمار في الجهل بالقضايا

بخلاف القاعدة المهنيّة والعلمية الشهيرة المعروفة بأخذ «الرأي المستنير» أيْ الرأي المبني على دراية ومعرفة بالموضوع تصلح لتكوين رأي حوله، كثيراً ما يستخدم منظِّمو استطلاعات الرأي بشكلٍ متعمَّد أسئلة ذات إجابات اختيارية لا تتضمّن خيار «غير متأكد»، في تجاهل لحقيقة أن الكثير من الناس لا يعرفون ما يكفي عن هذه القضايا المستطلَعة آراؤهم حولها حتى يكوِّنوا ما يصلح أن نسمّيه «رأياً» أصلاً. وبالتالي فإن استطلاعات الرأي كثيراً ما «تشوِّه أو تخطِئ تماماً في توصيف ما يفكر فيه الجمهور الأمريكي حقاً» بحسب مور.
فغالباً ما يجهل الأشخاص القضايا التي يُسألون عنها، لذا يعمل القائمون على استطلاعات الرأي على مَلئها للحصول على إجابات محددة بحيث لا يعود المُستطلَعون عينةً تمثيلية. وقلما يسأل منظمو استطلاعات الرأي عمّا إذا كان الناس قد سمعوا عن القضية المعطاة. يقول مور: «هذا هو تكتيك التلاعب المتعمد الذي لا يمكن إلّا أن يقوّض ادعاءات القائمين على استطلاعات الرأي بالموضوعية العلمية». وبالتالي تحصل الاستطلاعات على «آراء مصطنعة تستند إلى جمهور أسطوري لتبدو كأنها تعبير عمّا يفكر فيه المواطن العقلاني والمستنير والملتزم».

الاختيار القَسْري

معظم «الزبائن» الذين يطلبون خدمات استطلاع الرأي –وهم سياسيون أو وسائل إعلام- يفضلون إخفاء حقيقة أن عدداً كبيراً من الجمهور ليس على دراية كافية بالقضايا التي ينشرونها. على الرغم من أن شركات الاستطلاع تَعرف أن هنالك نوعاً من الاستطلاعات أكثر دقة، إلّا أنها تقرّر الاعتماد غالباً على طريقة الاختيار القَسري لأنّها تعطيها النتائج المثيرة الكبيرة التي يريدها عملاؤها. وهذا أمر مثير للريبة إذ إنّ هذه الشركات لا تهمّها «الحقيقة» بل تريد فقط بيع خدماتها للإعلاميين الذين بدورهم لا يسعون سوى للمزيد من القرّاء أو المشاهدين.
ويشير الكتاب إلى ثلاث طرقٍ رئيسية يتم عبرها تزوير استطلاعات الرأي العام. أولاً: عدم الإشارة إلى عدد الأشخاص الجاهلين أو غير المهتمّين بالقضية المُستَطلَعة. ثانياً: أساليب الاختيار القسري للحصول على الاستجابة التي يريدها القائم على الاستطلاع. وثالثاً: تزويد الشخص الذي يتم استطلاع رأيه بمعلومات لم تكن لديه من قبل كوسيلة للحصول على «اختيار» وبالتالي ارتكاب خطأ «انحياز الاعْتِيان» أيْ الانحياز في انتقاء العيّنة المقبولة إحصائياً.

التلاعب بتوقيت الاستطلاع

في الفصل الثالث «إخبار الأمريكيين بما يفكرون فيه» يشرح مؤلَّف الكتاب كيف أنّ عدداً كبيراً جداً من الناخبين ورغم أنهم لا يحسمون أمرهم عادةً حتى الأسبوعين الأخيرين قبل الانتخابات، يتم مع ذلك استطلاع آرائهم مرّات عدّة في هذه المرحلة، ويواجهون أسئلة من قبيل: «إذا أجريت الانتخابات اليوم لمن ستصوّت؟»، وبالتالي يكون هذا سؤالَ اختيارٍ قسريٍّ يؤدي لإجابات غير دقيقة. ويرفض مصممو الاستطلاع السؤال أولاً عما إذا كان الشخص لا يزال متردّداً. ويعتبر مور أنّ أفضل استطلاعات الرأي هي تلك التي تُجرى في أقرب وقت ممكن من موعد الانتخابات.
ويذكر مور مثالاً يبيّن كيف أنّ «استطلاعات الرأي غالباً ما تقدم صورة مضللة للغاية إن لم تكن كاذبة تماماً عن أداء المرشحين وما يفكر فيه الناخبون»؛ حيث جرى في أيلول 2007 بولاية (نيو هامبشاير) استطلاعٌ باكر للرأي يتعلق بالمفاضلة بين من يفضل الحزب الديمقراطي ترشيحه للانتخابات الرئاسية الأمريكية للعام 2008 (هيلاري كلينتون أم باراك أوباما). وكانت هناك نسختان مختلفتان جداً من الاستطلاع: واحدة نُشرَت على نطاق واسع في الإعلام، والأخرى تم تجاهلها بشكل كبير.
في الاستطلاع الذي تم نشره على نطاق واسع، أسفر سؤال التصويت القسري «إذا أجريت الانتخابات اليوم لمن ستصوت؟» عن إجمالي 11% متردّدين و43% لهيلاري كلينتون و20% لأوباما، و26% لآخرين. ولكن عندما أعيد الاستطلاع مرة أخرى مع السؤال الأول عمّا إذا كان الناس ما زالوا متردّدين بشأن لمن سيصوّتون، ارتفعت نسبة المتردّدين إلى 55%، وانخفض التأييد لكلينتون إلى 24%، ولأوباما إلى 10%، و11% لآخرين.

«تضليل الجمهور»

يشرح مور في الفصل الخامس من كتابه السبب وراء تعارض العديد من استطلاعات الرأي مع بعضها البعض وتشويهها عموماً لما يفكر فيه الشعب الأمريكي حول قضايا السياسة الكبرى. إحدى المشاكل هي أن العديد من القضايا السياسية غامضة ومعقدة وأن الكثير من الناس، إن لم يكن معظمهم، لا يتابعونها ولا يعرفون حقاً ما يجب عليهم التفكير فيه. وكما يقول مور: «يبذل القائمون على استطلاعات الرأي عموماً كلَّ ما في وسعهم لإخفاء هذه الحقيقة. فبدلاً من السماح للمستجيبين بالاعتراف بحرية بأنهم ليس لديهم رأي، يضغط عليهم منظمو الاستطلاعات لاختيار أحد الخيارات المتاحة».

التلاعب بتصميم الأسئلة

إحدى الحيل التجارية في استطلاعات الرأي هي أنه يمكن الحصول على نتائج مختلفة أو حتى متناقضة بحسب كيفية تصميم الأسئلة في الاستطلاع. وحتى ترتيب الأسئلة يمكن أن يؤثِّر على نتائج الاستطلاع. عند الاختيار بين إجابتين، يفضّل معظم الناس الإجابة الثانية على الأولى؛ يعطي مور مثال بيل كلينتون الذي حصل على تقييم أفضل عندما جرى تقديمه كخيار بعد آل غور. يشير مور إلى أنّ هذا يحدث بشكل خاص عندما لا يكون الأشخاص على علمٍ جيّد بالمسألة ويتم عرض أسئلة الاختيار القسري عليهم.
فماذا يمكن أن نستنتج فيما يتعلق باستطلاعات الرأي الإعلامية التي تدّعي أنها تخبرنا بما يفكر فيه الشعب الأمريكي؟ حسناً، كتب مور أنه «من خلال التلاعب بالأمريكيين الذين يفتقرون إلى المعلومات الكافية أو غير المنخرطين في شؤون السياسة لإجبارهم على تقديم آراء زائفة، يخلق منظِّمو استطلاعات الرأي رأياً عاماً وهمياً لا يعكس الواقع».
ويخبرنا مور أن المشكلة الكبرى في استطلاعات الرأي، والتي يعرفها القائمون عليها بأنفسهم، هي أنها مصمَّمة عمداً بحيث لا تكشف عما يفكر فيه الشعب الأمريكي حقاً.
ويشير إلى أن الناس يمكن أن يكون لديهم آراء سطحية أو عميقة، ولكن القائمين على استطلاعات الرأي يبذلون قصارى جهدهم لتخفيف حدّة الاختلاف لأنّ زبائنَهم (من وسائل إعلام أو سياسيين) يريدون تعبيراتٍ واضحة عن الآراء.
وبحسب مور فإنّ أيّ استطلاع لا يتخذ فيه 20% على الأقل موقفاً «حيادياً» من القضية المستطلَعة قد يكون تمّ التلاعب به.
ويخلص مور إلى أن «أي قياس للرأي العام هو في أفضل الأحوال تقدير تقريبي لما يفكر فيه الناس». وينهي كتابه بالقول إن استطلاعات الرأي يمكن أن تكون انعكاساً أفضل للواقع إذا حاولت بصدق قياس مواقف المستطلَعين ومدى معرفتهم أو جهلهم بالقضايا بدلاً من «نشر نتائج كاذبة لإخفاء الجهل العام واللامبالاة». ومع ذلك، لا يوجد دليل على أن أيّاً من استطلاعات الرأي الإعلامية الكبرى مستعدة للقيام بذلك، ممّا يطعن بشكل كبير في الزعم بأنها تعبيرٌ عن «ديمقراطية» حقيقية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1201