«المشهد الأخير»... بداية كلِّ شيء

«المشهد الأخير»... بداية كلِّ شيء

الحدثُ صورة جُثمانٍ لرجلٍ ببزَّتِه العسكريَّة بين الركام يعلوه الغبار وبقربه سلاحه، غزتْ المنصَّات والشاشات، التقطَها جنودُ الاحتلال دون أن يعرفوا حقيقة هويته، قبل أن يطلع علينا الناطق العسكري للاحتلال ويعلن الخبر استشهاد يحيى السنوار، مرفقاً بفيديو للحظات الشهيد الأخيرة؛ بقايا غرفةٍ يجلس الشهيد في زاويتها على كرسيٍّ مثخناً بجراحه، ملثَّماً بكوفيَّةٍ لم يبدُ منها إلَّا عينَيه المتقِّدتين يراقب بهما مُسيَّرة العدو وهي تتَّجه نحوه، فاستجمع ما أوتي له من قوَّةٍ وأمسك عصاً أمامه وحاول رميها نحوها ليُسقطَها.

سجن سجَّانه

ظلماتٌ ثلاث (المخيَّم وعتمة السجن وغزة) شكَّلت شخصيَّة السنوار، فكان التعبيرَ الأفصح عن صلابة المقاومة وثراء طرقها. قضى السنوار في سجون الاحتلال اثنين وعشرين عاماً، محكوماً بمدَّة تقدَّر بأربعة مؤبَّداتٍ وخمسة وعشرين عاماً إضافيّاً، كانَ يظنُّ عدوَّه بأسره وغيره من الفلسطينيِّين أنَّه يستطيع إذلالَهم وقتل الأمل أو أيَّ فكرةٍ قابلةٍ للحياة بأذهانهم، وأيَّ إيمانٍ بالنصر والتحرير والعودة، فالسجون «الإسرائيليَّة» صُمِّمَت لتنتجَ روحاً من اليأس على مقاس جسد السجين، لضمان أن يبقى مستكيناً طيِّعاً تحت سلطة سجَّانه، لدفن روحه الأصليَّة واستبدالِ أُخرى بها عدميَّةٍ يائسةٍ، هي أخطر مراحل الأسر.
لكنَّه كان يستعدُّ لليوم الأوَّل للحريَّة واستكمال مسيرة نضاله ضدَّ العدو الصهيونيِّ، إذْ تعلَّم خلال تلك السنوات لغةَ عدوِّه وخاطبَه بها، وأعدَّ الأسرى وطوَّر قدراتِهم من خلال الدروات التدريبيَّة الأمنيَّة، وتفرَّغ لدراسة المجتمع «الإسرائيليِّ» وقادته ونفسيَّته، قرأ مذكِّرات قادة الاحتلال، وكتب روايته «الشوك والقرنفل» وكتيِّباً عرَّف فيه بأحد رفاقه الأسرى «أشرف البلعوجي» الذي نفَّذ عمليَّةً عسكريَّةً، وهما إسهامان أدبيَّان في جهود توثيق السرديَّة الفلسطينيَّة، وترجم ثلاثة كُتُبٍ، اثنان لرئيسَين سابقين لجهاز الأمن الداخليِّ (الشاباك)، الكتاب الأوَّل لـ«يعقوب بيري» وعنوانه «القادم لقتلك»، والكتاب الثاني لـ«كرمي غيلون» عنوانُه «الشاباك بين الانقسامات»، ويتمحور حول الانقسام في المجتمع الصهيوني، أمَّا الكتاب الثالث فهو «الأحزاب الإسرائيليَّة 1992». كما ألّفَ السنوار «كتاب المجد» الذي يرصد فيه عمل جهاز الشاباك مستعيناً بكتابَي بيري وغليون اللَّذَين ترجمَهُما، بالإضافة إلى التقارير التي أصدرتها الصحافة الصهيونيَّة ممَّا كان موجَّهاً للمجتمع الصهيوني نفسه، إذْ كان السنوار يقرأ استراتيجيَّة قادة الشاباك حتَّى استطاع أن يعرف عدوّهَ جيِّداً. وألَّف دراسةً نقديَّةً غير منشورةٍ بعنوان «حماس التجربة والخطأ» تناول فيها تجربة حركة المقاومة الإسلاميَّة في العمل الأمنيِّ والعسكريِّ بالنقد والتمحيص.
تشير هذا المؤلَّفات والممارسات إلى أنَّ السنوار كان يتمتَّع بحالةٍ من الاستقرار النفسيِّ العالي، رغم أنَّه كان محكوماً عليه بالمؤبَّداتٍ، فاستطاع أن يحاصِرَ سجَّانيه، ويسيطر على رؤيتهم له بقدرةٍ ملفتةٍ، فعلاقتُه مع سَدَنة السجون لم تتذبذب ولم تتغيَّر، ولم يسمح للاحتكاك اليوميِّ بهم أنْ يصبح نمطاً من أنماط التطبيع والمعايشة، فالعلاقة مع العدوِّ لم تَعْدُ كونَها فرصةً للمعرفة وهدنةً للبحث ودراسةِ القوَّة والضعف.

الرسالة بعكس ما أراد العدو

الصورة تسرَّبت في لحظة عدمِ وعيٍ وغفلةٍ من جنود العدو بعد اشتباكٍ مع قوَّةٍ كان أحدُ عناصِرِها عدوُّ الكيان الأوَّل، أمَّا الفيديو -الذي نُشِر أثناء كلمة الناطق العسكري- فالمراد منه أنْ يقولوا إنّهم أنهوا مسيرةَ الرجل الاستثنائي، بصورةٍ تعكس «الضعفَ البشريَّ» في اللحظات الأخيرة، وأنّهم بذلك «أغلقوا الحساب» و«انتهى الطوفان» بالقضاء على مهندسه، إذ لمْ تتخيَّل آلة الإعلام الغربيِّ يوماً -ومثلها إعلام العدو- وهم الذين حاولوا لعقودٍ الاستئثار بتصدير صورتهم وفق تصوُّرهم الهوليودي، أن يستشهد بطلنا أمام عدسة عدوِّه بهذه الأيقونيَّة، التي فرضتها المعركة والميدان، أيقونيَّةٌ اختزلت وعبَّرت عن صورة القائد وهو يستشهد في سبيل قضيَّته مثل رفاقه وشعبه في ميدانٍ واحدٍ وعلى خطِّ الجبهة الأوَّل.
الصورة الأخيرة لم تكن سرياليَّةً -كما يحلو للبعض أن يصفها- كانت واقعيَّةً بهَيْبَة أسطورة، وواضحةً لا تشوبها أيُّ شائبةٍ، ولن تلوّثها الخطابات ولا التصريحات ولا الروايات التي تحاول وصفَ الموقف بخلافِ حقيقته، لأنَّ المفارقة التي أذهلت الجميع أنَّها كانت بكاميرات عدوِّه تحديداً، لتفضح أيَّ زيفٍ قد يقولونه أو يخرجون به، خرجت في لحظةِ جهلٍ من العدو عن وقع هذا المشهد على الإنسان العربيِّ، فبعد خمسة وسبعين عاماً من الاحتلال والتنكيل، ما زال هذا العدوُّ غيرَ مدركٍ لتركيبة شخصيَّة الإنسان المُقاوِم، ففي اللحظة التي أراد بها كسر هذه الشخصية -بتشويه صورة القائد عبر نشر الإشاعات ضدَّه لشهور، ثمَّ تقديم صورة مشهد موته الأخير أو صورته شهيداً بين الركام- جاءت الرسالة بعكس ما أراد مرسلها، إذ تعزَّزت الشخصيُّة المُراد كسرُها وصارتْ عصيَّةً على المحو، وتأبى أن تكون منسيَّةً. ففي عصر الإلهاء المنظَّم والمكثَّف الذي تُضَخُّ في سبيله ملايين الدولارات لحرف المُشاهِد العربيِّ عن قضيَّة فلسطين وقضاياه الملحَّة على حدٍّ سواء، يأتي هذا المشهد ويكسر ألفَ صورةٍ ومشهد، ويمحو ألفَ خطاب استسلامٍ أو انهزام خُطَّ أو قد يُخَطُّ في أذهان الملايين. إنّه مشهدٌ يحمل من الإباء والأنفة ما اختصر آلافَ سِير الأبطال والأساطير.
كانت الآلاف من قصص الأبطال تروى مشافهةً في كتب التاريخ والسير، وتتصدَّى لها ألف روايةٍ مضادَّةٍ لنموِّ فكرةٍ بألف جيشٍ، قد تنبت يوماً في تربةٍ ما صالحة. اليوم لا قصصَ تروى، فلقدْ كان المشهد أبلغ وأقوى من أن يُحكى، كان مشهدَ بطلٍ وقائدٍ يمثِّل الآلاف بكاميرا العدو فقط. مشهدٌ واحدٌ، ليس بموتِ قائدٍ بل بقيامةٍ ما... استشهدَ وهو مشتبكٌ بكامل عدَّته وعتاده العسكريِّ، وليس بعمليَّة استخباراتيَّة كما كان يتمنّى جيشُ العدو، نهايةٌ لم يردْها الاحتلال لكن أرادَها الشهيد وفي الخطوط الأماميَّة.

صورة vs صورة

لشهور كانت الأنباء عن الاشتباه بقتله أو هربه أو اختبائه في أحد الأنفاق متَّخِذاً من الرهائن دروعاً بشريَّةً، مسيطراً ويتصدَّر صفحات أخبار العدو، لكنْ لم يُخيَّل لأحدٍ قطُّ أن يكون على رأس المجموعات ينفِّذ العمليَّات بشجاعةٍ وبسالة...
«هذا المقطع ليس هو نفسه ما يراه مقاتلو حماس وحزب الله، هم يرون رجلاً عزيزاً يقاتل حتَّى آخر قطرة دم، تحوَّل السنوار إلى أسطورةٍ، شخصيَّة أكبر بكثيرٍ من عمر صاحبها، لن يمكننا إزالته من أذهان الأجيال القادمة، يجب أن نعترف: نحن حقاً نجد صعوبةً في فهم حماس». هذا ما علَّق به الكاتب في قناة كان العبرية «إليؤور ليفي».
في الزمن الذي تهافتَ فيه المطبِّعون للتهادن مع العدو وإنهاء القضيَّة، أغرقهم السنوار بطوفانه، فكانت صورته الأخيرة بياناً ناطقاً، وخبَّرت جراحُه أنَّه كان مُقبلاً غير مُدبِر، يقاتل حتَّى الرمق الأخير، في مقابل صورة القائد التي أرادها الغرب لشعوب المنطقة، ذاك القابع في قصره الفارِه ويفصله عن شعبه آلافُ الحُرَّاس، وتكسو خطاباتِه العباراتُ المنمَّقة الجوفاء البعيدة عن آلامهم آلاف الأميال من الجوع والحسرة والانكسار. هذا التباين أعادَ إلى الأذهان فكرةَ أنَّ الأساطير لم تمتْ وأنَّها يمكن أنْ تعيشَ بيننا، فالموت ليس النهاية، فـ«غداً سوف يولد من يلبسُ الدرعَ كاملةً، يوقد النار شاملةً، يطلبُ الثأرَ، يستولدُ الحقَّ من أضلعِ المستحيل».

معلومات إضافية

العدد رقم:
1197