الشيوعي الأول والشيوعي الأخير
سبق ان قيل ان الشعر ديوان العرب وكان العرب يوثقون مظاهر حياتهم ومآثرهم ومنجزهم الحضاري شعرياً، وكانت القصيدة وثيقة في ذاكرة المؤرخ وفي مصادر التاريخ العربي ومظانه،
وكان الشعب يوثق مواقفه في منجز ادبي او روائي كما في الف ليلة وليلة او المقامات وقد حاول المؤرخ حنا بطاطو في كتابه (العراق) ان يستثمر اول رواية عراقية وهي جلال خالد لأول روائي عراقي لاثبات مسألة تاريخية واستخدم مادة الرواية دليلاً للنتائج الذي اراد عرضها ففي رواية جلال خالد تحدث محمود احمد السيد عن تجربة اول ماركسي عراقي هو حسين الرحال الذي عاد من برلين عام 1920 وهو يعيش طقساً من القلق الفكري سافر بعدها الى الهند وتبادل الافكار مع ثوري من هناك وفي كلية الحقوق شكل اول حلقة ماركسية والروائي احمد محمود السيد هو اول روائي عراقي تأثر بافكار اول شيوعي واستوحى روايته الاولى جلال خالد من تجربة حسين الرحال ان لم يكن قد وثقها وقد كان هناك تعاطف متبادل بين الرحال والروائي محمود احمد السيد وان كانا يختلفان في جوانب عديدة فالسيد او بطله شيوعي رومانسي وافكاره فيها شيء من الضباب وميوله ذات تدفق عاطفي وليست تأملية هادئة ويرى حنا بطاطو ان هذه الرواية جلال خالد بنيت على وقائع حقيقية واستخدمت لدور ايديولوجي مبكر في تشكيل الوعي بالواقع العراقي وكان كلاهما الرحال ومحمود السيد يحمل نزوعاً رومانسياً وكلاهما يرى نفسه مع المحرومين لكن فعله محدود وقد استسلم لليأس ومشاعره مترددة بين مواقف انسانية او قومية وتسيطر على البطل والمؤلف معاً حالات اليأس والاحباط لقد رسم لنا المؤرخ حنا بطاطو صورة اول شيوعي واول روائي تبادل كل منهم افكار الاخر وتوحد كلاهما بشخص اخر واصبحت الرواية مصدراً للتاريخ … فهل يمكن ان نستفيد من مجموعة الشاعر العراقي سعدي يوسف(الشيوعي الاخير يدخل الجنة) للوصول الى المتغيرات التي طرأت على الشيوعي الاخير بعد مرور اكثر من تسعين عاماً على ظهور الشيوعي الاول.
بالطبع حاول سعدي يوسف اسقاط كل ما كان يعانيه من غربته في المنفى او اغترابه الداخلي والسيكلوجي على شخص الشيوعي الاخير ، فماذا اراد سعدي يوسف ان يقول في عشرين قصيدة كتبها عن تجربته ؟ يواجهنا سعدي يوسف بشروط وتعاليم ليكون الاخر شيوعياً ليس شيوعي الامس بل شيوعي الغد وهي ان يستمتع بالاشياء وان لا يمتلك شيئاً ويقرأ كارل ماركس ويظل رفيقاً في القاعدة كي ينظر من فوق وكان بطل جلال خالد هو الاخر تسيطر عليه الكبرياء ونظر الى رفاقه من عل.. وعليه ان يلبس اجمل ويسمع موسيقى ويستعمل سلاحه وان يتعلم فن الصمت ويؤمن بالشعب . هذا الشيوعي الاخير تراه في برشلونة في عيد العمال في حانة الرفيق السابق انطونيو يجتر ذكريات ايام زمان وفي قصيدة اخرى يرى الشيوعي الاخير العالم اليوم وكان يظهر بالمقلوب ولا يدري ان كانت كلمة رفيق مازالت تستعمل اليوم وقد اوصته حبيبته الا يدخل البصرة الا تحت الراية الحمراء..
هذا الشيوعي الاخير يتشرد في العواصم المخملية فهو حيناً في باريس وحيناً في خليج عدن او يرحل الى استراليا وقد بدد ماله في المقاهي والمطاعم وعلى الصديقات العابرات وهو يمر على واجهات المخازن والصبايا العاملات والسكارى واشجار الليل...
ويعب كأساً مع صعلوك في زاوية من حانٍ ، وان قميصه سيظل احمر قانياً ، وبينما هو ينتظر الباص الأحمر ، تمر امامه القطارات والسيارات لكن الباص الاحمر لم يأت والسائق قد كان باع الباص.. هذا الشيوعي كان جالساً في شرفته لم يكمل قهوته ، او ينصت للموسيقى وفي الانترنت يسمع خبراً ان الاميركيين اقاموا حفلة قتل لشباب عراقيين واخيراً قرر الشيوعي الاخير ان يخرج في مظاهرة لطرد الاحتلال ، وسيشتري قماشاً ابيض وطلاءً احمر وسيهتف انه حزب نفسه وانه يدعى الشيوعي الاخير.
لقد كان الشيوعي الاول يحلم بفردوس مفقود وكان يعاني قلقاً مبدعاً للبحث عن عالم جميل من بين ركام الحرائق في العراق عام 1920 لكن الشيوعي الاخير الذي يتسكع في عواصم اوربا يعاني من اغتراب وفقدان الذاكرة وحافظته فارغة يتكلم بلغة رمزية وهي اكثر ادهاشاً وغربة من مشاعره ، بعيدة عن لغة الحياة اليومية وهموم الناس البسطاء وهو شكلياً يحمل راية حمراء ويبحث عن مدينة لا ينمو فيها الثلج والزنبق كما كان يقول في بداية الخمسينات مفعماً باليأس والاحباط والخيبة مسلوب الارادة يرفض ان يعمل صباغاً او يعمل اقنعة او يخدع الاخرين بالالوان بعد ان كان يقود الاضرابات..
لقد اسقط سعدي كل ما في مخيلته من احباطات وتخلى عن يوتوبيا ليست له ملامح باحثاً عن الجنة..
هل يمكن اعتبار تجربة سعدي يوسف هذه نوعاً من الفشل البطولي او الانتصار الخائب ام يبقى الكركدن مذعوراً يتلفت تارة الى اليمين واخرى الى اليسار ؟ ذلك هو السؤال.