معركة العقل البارد والنفس الطويل

معركة العقل البارد والنفس الطويل

في معركة مركّبة كالتي تجري الآن في منطقتنا ثمة معركة تخاض ضد العقول والقلوب بضراوة تماثل ضراوة المعركة على الأرض. وقد تظهر بأشكال مختلفة ولكنها ذات محتوى واحد، يتعلق بفهم فكرة المقاومة وحواملها الاجتماعية وتحديد من هو العدو وفهم كل ما يخصه.

ورغم أن هذه الإشكالية ليست بجديدة، وهي تظهر عند كل اختبار مفصلي، لكن تأتي أهميتها هذه المرة من أهمية المعركة الحاصلة، فهي معركة مركبة وهجينة ومتعدد الأبعاد والأهداف وليست مجرد فصل تاريخي أو حدث عسكري عابر بل هي جزء من حدث نوعي شامل يجري وسط تغيّر في ميزان القوى العالمي كله، ويمكن أن يغير بنية العالم القديم. من هنا تأتي ضرورة قراءته بعقل بارد ونفس طويل.

«مثقفون» تحت الطلب

وعلى اعتبار أننا نعيش في عصر تحاول فيه القوى التكنولوجية الكبرى وممولوها فرض تصورات محددة وصياغة وعي جماعي يتماشى مع مصالح الغرب ومحاولاته فرض الهيمنة متعددة الاشكال، فقد أخذت منصّات التواصل الاجتماعي دوراً هاماً في المعركة الجارية سواء في نقل ما يجري في غزة بعد عملية طوفان الأقصى، أو في محاولة العدو توسيع الحرب من خلال هجومه الأخير على لبنان.
تتكرر ظاهرة نشر الصوَر والمعلومات من دون أيّة مسؤولية أو اعتبار لمضامينها، حيث أتيح المجال أمام الكثيرين ممن يوصفون أنفسهم بـ «مثقفين» أو «محللين سياسيّين» أو حتى بعض العابثين الذين يبحثون عن ثغرات للنيل من المقاومة واستهدافها، وهم كُثر، يجلسون خلف الشاشات وينشرون ما يحلو، لهم دون اعتبار لأية مسؤولية ناجمة عمّا ينشرونه ولا حتى اعتبار للحقائق التي تعلن عن نفسها أو يعلنها العدو عن وضعه المزري. يقسمون الانتصارات والهزائم بروح اللامبالاة تجاه الدم المسكوب في غزة ولبنان. وإذا كان بعض منهم قصير الأفق والنظر ويقدم تحليلاته مجاناً غير واعٍ بما يفعل، إلا أن كثيراً من هؤلاء يعملون «تحت الطلب» لمؤسسات وشركات إعلامية محددة.
لا يهم هؤلاء التفكير فيما وراء الظاهرة أو الحدث والبحث عميقاً فيما يكمن خلف هذه الحرب التي تجاوز فيها الاحتلال الصهيوني وخلفه الولايات المتحدة كل الحدود والاعتبارات الإنسانية، وعلى اعتبارها حرباً طويلة ومكلفة من جميع النواحي، يخوض فيها الاحتلال عدواناً دفاعياً، وإن كان بشكلٍ هجومي. يحاول من خلال رد فعله العنيف والوحشي بعد طوفان الأقصى التي حولته إلى خانة محاصَر ومتلقّي الضربات وكسرت هيبته، يحاول منذ ذلك التاريخ، تغيير المشهد واستعادة الردع ولو تكتيكياً. ولذلك جاء العدوان على لبنان بهذه الكثافة من الغارات الجوية والعدوان ضد المدنيين، فهو يحتاج بشدة إلى تمزيق صورة طوفان الأقصى وما تلاه ورسم صورة ومشهد آخر.
يتناسى هؤلاء الحقائق التي يعلنها الاحتلال عن نفسه، فقد تساءل اللواء في احتياط «جيش» الاحتلال الإسرائيلي، إسحاق بريك، عن كيف سينتصر هذا «الجيش» على حزب الله، إذا كان قد فشل في هزيمة المقاومة الفلسطينية وعلى حماس. ويقر بريك مؤخراً، في مقالٍ في صحيفة معاريف «الإسرائيلية» بأنّ: «حزب الله سيبقى موجوداً كما هي حماس اليوم في غزّة»، مؤكّداً أنّ «إسرائيل حتى لو قامت بتسوية كل لبنان بالأرض وتحويله إلى أنقاض مثل قطاع غزّة، فإنّ حزب الله سيواصل إطلاق الصواريخ والطائرات بدون طيار علينا». حسب تعبيره. وتابع كلامه قائلاً: «عيون غالبية السياسيين والإسرائيليين عُميت عن رؤية الواقع الذي يجري حولهم، وإنهم يرون ويعملون انطلاقاً من أماني، من دون تفكير عقلاني، ويتجاهلون الحقائق كلياً، وأنّ الطريق التي ينتهجها المسؤولون نهايتها أكيدة إلى الجحيم».
لن يصدق من يلقي اللوم على المقاومة ويحثها على الاستسلام الحقائق التي يدلي بها ضابط رفيع المستوى برتبة لواء في جيش الاحتلال بل سيوغل أكثر في تفكيره المسطّح وينشر تحليلاته المسمومة مروجاً لهزيمة المقاومة والشعب اللبناني والفلسطيني خلفهما، خادماً العدو فكرياً ونفسياً سواء وعى ذلك أم لم يعِه.

تفسيرات متهافتة

يتذرع كثير من هؤلاء ممن يسوغون للعدو ويروجون لانتصاره برد تضحيات المقاومة إلى إيديولوجيا دينية، ولكونهم «علمانيين» و«متنورين» لا يقبلون بها، ويتجاهلون عن عمد التاريخ والكثير من الشهداء والوطنيّين في معارك التحرير من الاستعمار واستقلال بلادهم والذين ينتمون إلى فئات وشرائح متنوعة جمعهم هدفهم واحد واضح واستطاعوا تحرير بلادهم من احتلالات مختلفة على مر التاريخ.
أما البدعة الأخرى لهؤلاء فهي «النظرة الإنسانية» التي تعتبر الشهادة وثقافة الاستشهاد مجرد «نفاق» لأن «حياة الإنسان وأي كائن غير الإنسان هي المقدس الأول وكل شيء يكرس ويجند في سبيل ذلك» و«المفارقة أن التسويق للشهادة تسويق للموت المجاني... فالشهيد يريد الموت من أجل تحقيق مصلحة عصابة ما»! لم يتوقف أصحاب هذه الأفكار ليسالوا أنفسهم لماذا يضطر الإنسان للتضحية بنفسه وبحياته ودمه؟ هل شاهدوا صور العائلات كاملة يبديها المحتل عن بكرة أبيها؟ هل شاهدوا صور الأمهات في غزة مع جنائز أبنائهن الصغار، وهل سيتوقف الاحتلال عن قتل الأبرياء إذا استسلمت المقاومة، وهل سيتوقف عن مشروعه الاستيطاني وسياساته تجاه المنطقة وأبنائها؟ وهل وهل... إلخ. أم منعتهم رهافتهم «الإنسانية» من المتابعة ومشاهدة الإجرام والوحشية التي يتعرض لها الناس في الأراضي المحتلة بينما يحتسون هم الشاي خلف شاشاتهم الزرقاء في غرفهم المكيفة؟

الوحشية دلالة الهزيمة

تجاوزت وحشية الاحتلال الصهيوني في حروبه المتتالية منذ نشوئه إلى حربه الأخيرة على غزة ولبنان كل ما هو إنساني، وأصبح وجوده خطراً على البشرية، وليس هذا بغريب لكون ممثل رأس المال المالي في العالم والمنطقة للإمبريالية العالمية والتي تحولت منذ زمن إلى عدو فعلي للمجتمع والطبيعة.
قد لا يصدق البعض درجة الجنون التي وصل إليها في غيّه وتوحشه، ولكن مشاهدة بعض الفيديوهات المسربة لطريقة تربية الأطفال في الكيان تشرح ذلك، يتناول أحد هذه الفيديوهات مشهداً لبعض رجال الدين من الصهاينة في صف ابتدائي، يسألون الأطفال الصغار: «إذا رأيتم طفلاً عربياً ماذا تفعلون؟ ويجيب الأطفال نشعر بالغضب والرغبة بقتلهم. فيصفق الرجال ويهللون لهم.
وفي الآونة الأخيرة، تداولت الحسابات على منصّة «إكس»، فيديو مصوّر للصهيونية دانييلا فايس، وهي تُنظّم رحلات للمستوطنين على متن سفينة مُطلّة على قطاع غزّة، «ليستمتعوا» بمشاهد الإبادة التي يشنّها الاحتلال على القطاع. تظهر السفينة وهي ترفع «العلم» الصهيوني، ويظهر المستوطنون عليها، ومن بينهم أطفال، وهم يستمتعون بمشاهد الإبادة ويلتقطون صوراً لمشاهد الغارات بهواتفهم. كما تتحدّث فايس في الشريط المصوّر، واعدةً ركّاب السفينة، بالقضاء على الغزاويين والاستيلاء على غزّة وضمّها إلى مستوطناتهم.
يوضح الإجرام والهمجية في الهجوم حقيقة أن الوحش جريح جرحاً لن يندمل بعد الآن، وقد اتضح للكيان وقادته مصيره المحتوم طال الوقت أو قصر، خاصة أن النظام الاستعماري الغربي بات منفعلاً وفاقداً للإبداع ولا يمتلك إلا مقاربة عسكرية واللجوء إلى الحروب. ومن هنا تأتي أهمية الصمود بوجهه وكسر هجماته بشتى الوسائل، مع كل ما يقتضيه ذلك من تحشيد جوانب ومقدرات قوى المقاومة وعلاقاتها وأوراقها بطريقة دقيقة وبعقل بارد ونفس طويل.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1194