الحرب المفتوحة و«اللَّا يقين»: كسر الاغتراب والإنسان ككائن سياسيّ

الحرب المفتوحة و«اللَّا يقين»: كسر الاغتراب والإنسان ككائن سياسيّ

في المادة السابقة أشرنا إلى أنّ موجة عامة من «التساؤل» حول سؤال «ماذا بعد؟» بدأت تكبر على وقع الحرب التي بدأت تتكشف أنها «مفتوحة»، لا في منطقتنا فقط، بل في مختلف أماكن الصراع التي فُتِحت فيها جبهات عسكرية في السنين الماضية. هذه المادة تستكمل بعض المعاني السياسية التاريخية لهذه الموجة التي تتمحور حول التناقض في مجتمع الانقسام الطبقي ككل، وفي جوهره تجاوزُ الاغتراب.

مجتمع «اللّا يَقين» و«اللّا معنى» وغياب صورة المستقبل

في مواد كثيرة سابقة أشرنا إلى أنّ المجتمع الرأسمالي في مرحلة أزمته العميقة والشاملة ونهاية مفاعيل مناورته التاريخية المتمثّلة بنموذج مجتمع الفردانية الذاتية الاستهلاكية، بات يتميّز بغياب نماذج عقلانية أخرى ضمن ترسانته الفلسفية قادرةٍ على تقديم صورة عقلانيّة عن العالم، وبالحفاظ على انقسام فرد-مجتمع، وذات-موضوع، في مرحلة وصول هذا الانقسام إلى ذروته، واندماج الذات مع الموضوع نتيجةَ تطبيق الفردانية الاستهلاكية على المجتمعات ككل.
إنّ هذا المجتمع المنقسم يتحوّل اليوم إلى نموذج محقَّق اجتماعياً وسياسياً من الذاتية والمادية الصلفة المتطرفة التي تلغي العقل وموضوعَه وأصلَ تشكله، أيْ المجتمع. هذا النموذج في تطبيقه على المجتمع (بالأحرى على تحويل المجتمع) يلغي وجود الذات (والعقل العارف) والموضوع (المجتمع)، أي يلغي النقيضَين المُشكِّلين للانقسام الطبقي عبر التاريخ. وهذه المفاعيل كانت بدأتْ تتضح في فضاء «النظرية» المهيمنة خلال أدبيات ما بعد الحداثة، ولاحقاً انتقلت إلى الممارسة الأيديولوجية الهيمنيّة إعلامياً وأكاديمياً وفي العقل السياسي وغيرها. نجدها مثلاً في مقولات «اللّا يقين»، وتغييب الحقيقة وإمكانية المعرفة، وضرب صورة المستقبل، ومجتمع «اللّا معنى»، إلخ.

ضرب المعرفة كضربٍ للممارسة الكلّية

المكافئ الممارَسيّ لهذا «العدم» العقلي-المعرفي هو ضربُ الممارسة السياسية، وتعميم السلبية من خلال موقع الاستهلاك الصرف، وفصل الأفراد عن القضايا الكبرى وعن الآخرين، وتحويل السياسة إلى فضاءٍ لـ«التعبير الذاتي والفرداني» الهويّاتيّ القاتل، بحيث صارت السياسة عمليةً «خارج الإنسان» يتلقَّى مفاعيلها بسلبيّة كضرورةٍ تَحكُمُه، لا كحرَّيةٍ له في تقرير مساره وبالتالي في تقرير مصيره هو. وهذا بالطبع يمكن فهمه كردّةٍ رجعيّة على المرحلة الثورية في القرن الماضي التي بدأت مع دخول القوى الاجتماعية مسرحَ التاريخ من خلال الممارسة السياسية التغييريّة عالمياً، وغنيٌّ عن القول كيف جرتْ الردّة الرجعيّة بعد ذلك من خلال ضرب العقل الجماعيّ والأحزاب وتشويه العقل الثوري وتجربته، إلخ، وهي رِدّةٌ استعادتْ الإنسانَ المغترب عن واقعه وعن ذاته، بعد أن كان الإنسانُ قد كَسرَ من خلال الحركة الثورية حلقةَ الاغتراب، بغضّ النظر عن مدى هذا الكسر حسب جذرية التجارب الثورية والأفق الذي سارت نحوه.
إذاً، تتلاقى معادلة ضرب العقل (الذات العارفة) مع معادلة ضرب الممارسة الاجتماعية «الكلية» أي السياسيّة، التي هي مدخل المعرفة في المرحلة وتكوين صورة العالم وموقع الإنسان ودوره وصورته عن ذاته. إذا كان هذا هو المسار الذي ينتمي إلى المجتمع القديم الذي يموت، فمن المنطقي جدليّاً أن يكون المسارُ المؤسِّسُ لولادة العالَم الجديد نقيضاً لضرب المعرفة والعقل وضرب الممارسة. نحن أمام المعادلتين الفلسفيَّتين المتناقضتين المعروفتين: هل الإنسان هو «إنسانٌ لذاته» أم أنّه «إنسان لذاته وللآخرين»؟ أُولى هاتين المعادَلتَين تعطَّلت مناورتُها التاريخية وصارت مدمّرة، بينما تَفرِضُ ضرورة الحفاظ على الإنسان، عقلاً ووجوداً اجتماعياً، تحقُّقَ المعادلة الثانية.

الحرب «المفتوحة» والسياسة

الحرب الراهنة في مختلف مناطق العام، تحصل أيضاً في سياق هذا الانغلاق العام لأفق النظام الرأسمالي، والطبقي بشكل عام. وفي تعريفنا لها كحربٍ هجينة فإنّها تعبّر عن التناقض في المجتمع الطبقي في نسخته الراهنة التي ذكرناها أعلاه (انقسام فرد-مجتمع)، أيْ التي تعبِّرُ عن ضرب العقل والمجتمع على السواء، وما يعنيه ذلك من تعميم البربرية وضرب الدول والانتظام الاجتماعي ككل. علماً أنّ هذا الانتظام الاجتماعي كان قد تشكل خصوصاً نتيجةً للموجة الثورية في القرن الماضي، ومن هنا تأتي الطبيعة الثانية لهذه الحرب في كونها «حرباً مفتوحة». إنّ هذه الحرب هي الوجه العسكري للنموذج البربري المطلوب تعميمُه، وبالتالي فإنّ مواجهتَها والردَّ عليها هو ردٌّ «هجين» أيضاً. لا شيء جديد في هذا القول، فقدرةُ ردعِ الحرب والصمود فيها اجتماعياً واقتصادياً وبشرياً، إلخ، والنصر على العدوّ العالَمي، لم يتطلَّبَ سابقاً «اقتصاد الحرب» فحسْب (يمكن مراجعة نموذج الاتحاد السوفياتي)، بل و«مجتمع الحرب» أيضاً، الذي هو تكثيف لحشد وتعظيم طاقات المجتمع، حول مشروعٍ يتجاوز سياق الحرب نفسها. أيْ أنّ قدرةَ الرَّدع تطلَّبَتْ مشروعاً سياسياً، وبرنامجاً سياسياً تاريخياً آخر.
وإذا عدنا إلى سياق الحرب «المفتوحة» الراهنة، فإنّ البنى التي تواجه الهجوم الإمبريالي البربري هي نفسُها حاصلٌ تاريخيٌّ للموجة الثورية الأولى، وتنتمي في بنيتها إلى هذا الحد أو ذاك إلى المجتمع المنقسم الطبقي، ومن هنا تناقضُها الداخلي (إنسان-مجتمع). ومن تبعات هذا التناقض المدى الذي وصله إشراك الجماهير في إدارة المجتمع، أي مدى تجاوز معادلة الاغتراب؛ أيْ المدى الذي صار فيه الإنسانُ «إنساناً سياسياً فاعلاً». ومن تبعات ذلك أيضاً حدودُ قدرة البنى الراهنة على مواجهة الحرب الهجينة، ليس فقط على مستوى النموذج الاقتصادي القادر على الصمود، بل وكذلك على مستوى وحدة المجتمع السياسية والاجتماعية.
ومن الواضح أنّ هذه البنى السياسية وقاعدتها الاجتماعية والاقتصادية صارت، بدورها، تتطلب تطويراً يتجاوز السَّقفَ الذي وصلتْ إليه كناتجٍ للموجة الثورية الأولى، ويجبُ تجاوزُ الانقسام الطبقيِّ فيها إلى مَدى أعمق اليوم، على ضوء كون هذا الانقسام هو جوهر الحرب البربرية الهجينة. فهذه البنى هي نفسُها تعبيرٌ جدليٌّ عن بقاء معادلة الاغتراب فيها، وتحديداً في تجميد الحركة السياسيّة، وبالتالي الفعالية الإنسانية ضمن جهاز الدولة في صيغته لما بعد الحرب العالمية الثانية، وهذا يَرُدُّنا إلى جدليّة الدولة-الثورة عند لينين.
من ملامح حدود البنى الحالية التي تقوم بالمُواجَهة، وتحديداً في المناطق الأكثر سخونة والتي تتعامل مع واقع نهاية عصرِ الاستقرار وعقلِ الاستقرار، هو «رعب» السؤال «ماذا بعد؟» ومتى ستنتهي تلك الحرب؟ إنّ نهاية عصر الاستقرار النسبيّ في الواقع المُعاش (لمرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية) هو على المستوى العقلي-المعرفي تعبيرٌ عن صراعٍ بين فلسفةِ الثبات التاريخيّ التي قالت بها الرأسمالية كتعبيرٍ عن مثاليّة العالَم وثباتِه، وبين نقيضِها الجدليّ الذي يقول بأنَّ المادةَ، والمجتمعَ ضمناً، في حالةِ حركةٍ دائمةٍ تقودُها التناقضاتُ الداخلية.
وعليه، فإنَّ رفع حالة «اليقين» من جهة، والإجابة على سؤال «متى تنتهي الحرب؟»، من جهة ثانية، يتجاوزان حدودَ البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تقومُ بالمُواجَهة، إذْ لا عودة للوراء، بعكس ما يعبِّرُ عنه بعضُ القائلين «لنوقفِ الحربَ ولنعُدْ إلى حالة ترسيم الصراع مع الغرب!». وكأنَّ ذلكَ يمكن أن يحصلَ إرادياً، متجاهلينَ طبيعةَ أزمة الغربِ وحاجتَه لضرب مفرزاتِ الحرب العالمية الثانية، والذهاب نحو نموذجٍ بربريٍّ لـ«ما بعد المجتمع»! وهذا التجاوز يتطلب تعميقَ تجاوز معادلةِ الاغتراب من خلال تحويل السياسة كعمليّةٍ «خارج الإنسان» (محصورة نسبياً في جهاز الدولة التي تُواجِه)، إلى عملية يكون الإنسانُ في صُلبِها. هذا لا يقود فقط إلى عودة «اليقين» كيقينٍ «ممكن» لا «حتميّ»، بل يجعل الإنسان مشاركاً في صناعة هذا اليقين عبر القبض على العملية التاريخية التي تقود إلى وقف الحرب، في كونها عمليةَ بناءِ المجتمع المتجاوِز للانقسام (فرد-مجتمع)، فوقفُ الحرب العالمية السابقة كانتْ تلك طبيعتُه التاريخية، أيْ في كونه حركةَ سيطرةٍ على الواقع من قِبل العالَم الجديد، بمعزلٍ عن تعبيراته السياسية والاقتصادية والاجتماعية. إنها بديهيّة أنّ ما «نريده» هو ما نصنَعُه كأفرادٍ فاعلين، لا ما يحصل «خارجنا» كعملية مستقلّة «مغتربة».
وهذا المسار تتّضح ضرورتُه بقوّة عندنا نتيجةَ عمقِ التّدمير، ولكنّه سيتعاظَم عالَمياً، وعلينا رفعُ مقولاتِه وجرُّ القوى الأخرى إليه، فالتاريخ دوماً يَسيرُ من جانِبِه المتعفِّن كما أشار ماركس في «بؤس الفلسفة»: «إنَّ الجانب المتعفِّن هو الذي يُنتِجُ الحركةَ التي تصنعُ التاريخ، من خلال توليدِهِ لنِضال»؛ أيْ لنضالِ الجانب الصحيح من التاريخ ضدّ جانبه المتعفِّن.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1195