ما وراء الفضائح في عاصمة الأنوار

ما وراء الفضائح في عاصمة الأنوار

انتهت دورة الألعاب الأولمبية التي جرت في الفترة ما بين 26 تموز إلى 11 آب في فرنسا. وأعلن مكتب النيابة العامة في باريس فتح تحقيق بسبب شكوى تقدمت بها الملاكمة الجزائرية إيمان خليف الفائزة بالميدالية الذهبية لوزن 66 كلغ، بتهمة التحرش الإلكتروني الجسيم.

وأكد مكتب الادعاء أن خليف التي تعرضت لحملة تشهير واسعة بزعم عدم أهليتها الجنسية للمشاركة في منافسات السيدات، قد «تقدّمت يوم الجمعة 16 آب بشكوى بشأن أعمال التحرش الإلكتروني الجسيمة إلى مركز مكافحة الكراهية الإلكتروني التابع لمكتب المدعي العام في باريس. وسيحدد التحقيق الجنائي من الذي بدأ هذه الحملة الكارهة للنساء والعنصرية والجنسية، ولكن سيتعيّن عليه أيضاً التركيز على أولئك الذين غذّوا هذا الإعدام الرقمي من دون محاكمة» حسب تعبيره.

فضائح بالجملة

وصف كثيرون أولمبياد مدينة الأنوار، باريس، بـ«أولمبياد الفضائح»، فقضية إيمان خليف ليست الوحيدة في سلسلة المشاكل التي حدثت في الأولمبياد «الأكثر أثارة للجدل»، ابتداء من أسوء حفل افتتاح، ومروراً بـ«شجارات وسرقات طالت مبالغ ضخمة من الأموال ومجوهرات ومتعلقات رياضين... وتجاوزتها إلى سرقة العشرات من إطارات الدراجات وقطع الغيار ومفاتيح لراكبي الدراجات المشاركين! ونقص المنتجات الغذائية ورداءتها وقد تحولت هذه إلى فضيحة غذائية بعد شكاوى عديدة أكد فيها الرياضيون وجود ديدان في بعض الأطعمة، خاصةً السمك، إضافة إلى ملوثات أخرى في الطعام مما تسبب بانتشار الأمراض...! وانتقد الرياضيون الظروف المعيشية في القرية الأولمبية حيث: «لا يوجد تكييف في القرية، الجو حار، والطعام سيئ» مما وضع الرياضيين أمام خيارين، خيار البقاء في القرية أو المغادرة وحجز غرفة في فندق على حسابهم والتكفل بنفقات الطعام والمواصلات، وقد غادر العديد منهم بينما اضطر آخرون للنوم في الحديقة، وقد وثقت الفيديوهات حالهم وتداولتها وسائل الإعلام حول العالم. أما عن الأسرّة المصنوعة من الكارتون فيكفي قراءة ما قالته الأسترالية تيلي كيرنز، سباحة البولو لمعرفة الوضع: «ظهري يكاد ينخلع من مكانه».

الفئران لها رأي آخر

وصف رئيس الوزراء الفرنسي غابريال أتال الألعاب الأولمبية الحالية بـ«الناجحة على المستويات كافة» في ما يتعلق بالجوانب الرياضية والتنظيمية والأمنية. بينما وصف الرئيس الفرنسي ماكرون نجاح «أولمبياد باريس» يشبه مونديال 1998. ولكن الفئران في مدينة الأنوار كان لها رأي آخر، فقد تداول رواد منصات التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو لفئران ضخمة وهي تعبث بالبنى التحتية في العاصمة الفرنسية، مثيرة هلع السكان. ووفق تقارير إعلامية فرنسية خرج ما يقرب من 6 ملايين فأر إلى شوارع باريس، بعد يومين من افتتاح دورة الألعاب! مما زاد في الانتقادات المستمرة لمستوى تنظيم دورة الألعاب الأولمبية التي شهدت إنفاق الحكومة الفرنسية مبالغ ضخمة للتخلص من تلوث نهر السين، وجعله صالحاً للسباحة كإرث رئيسي للألعاب، فقد تكلف بناء القرية الأولمبية 1.6مليار دولار لاستضافة أكثر من 10 آلاف رياضي ثم تحويل المنطقة بعد انتهاء الألعاب إلى حي سكني وتجاري. وللمفارقة فقد طالبت عمدة باريس، آن هيدالجو، قبل عام سكان المدينة بالتعايش مع وجود الفئران بعدما أصبح عددها يتخطى البشر الموجودين في المدينة التي يسكنها مليونا نسمة و6 ملايين فأر! لم يوقف هذا الجدل من تسبب تلوث مياه نهر السين في نقل عدد من الرياضيين وإدخالهم إلى المستشفى لتلقي العلاج جرّاء أصابتهم بعدوى بكتيرية.

مرشحو الرئاسة المتنمرون

بالعودة إلى قضية إيمان خليف، يمكن للباحث المدقق استقصاء ما وراء الظاهرة، واستخلاص الكثير من الحقائق المخفية خلف حالة التنمر الفظيعة التي تعرضت لها الملاكمة الجزائرية، والتي شارك فيها كثير من ممثلي النخب السياسية والثقافية الغربية ومنهم الرئيس السابق للولايات المتحدة الأمريكية والمرشح القادم للانتخابات الرئاسية فيها. تكمن واحدة من هذه الحقائق في انتمائها، إلى الجزائر، البلد الذي دفع أبناؤه دماءهم ثمناً لاستقلالهم عن فرنسا الغازية، ثم تأتي الفتاة الجزائرية لتفوز وتتوج بالذهب في قلب العاصمة باريس!
قبل هذه الحادثة، وخلال التحضير للجولة الثانية من الانتخابات البرلمانية الفرنسية، شهدت مواقع التواصل الاجتماعي حينها موجة من الغضب والاستنكار بسبب أغنية تحمل تحريضاً رخيصاً ضد المهاجرين، عندما طرح يمينيون متطرفون في فرنسا أغنية تحرض ضدّ المهاجرين والفرنسيين من أصول عربية وإفريقية، وأثار المرشح اليميني السابق للانتخابات الرئاسية، إريك زمور، استنكاراً عاماً بسبب ترويجه الأغنية، في حسابه في منصة «أكس»، ورقصه على أنغامها.
وأظهرت بعض التعليقات ردود الفعل، بأن هذه الأغنية «ليست ظاهرة منعزلة، وإنما هي رمز لثقافة عنصرية بدأت تظهر إلى العلن»، وانتقد آخرون زمور: «هذا هو الشخص الذي يطمح إلى قيادة بلدنا، يشاركنا أغنية عنصرية من الدرجة الأولى، من دون أي خجل مطلقاً. هذا المشهد المرير هو حقيقة واقعة. إنهاء التطرف واجب أخلاقي».
يعاني الغرب أزمة وجودية وهوياتية عميقة، تتهدد فيها الحياة الروحية والمادية وتنتشر الأمراض الاجتماعية والنفسية منها الاكتئاب والتوحد والشجار والفصام والتفكك الأسري والطلاق والانتحار والقتل، والاستهلاك المفرط في الأدوية والمهدئات، وصولاً إلى الإدمان على المخدرات والكحول في سبيل الهروب من الواقع المعاش وخلق واقع جديد كاذب ووهمي، يمكن التصالح والتعايش معه، تقوم أزمات الرأسمالية المتنوعة بتحويل الإنسان إلى كائن مسخ فاقد للهوية والكرامة، و«يظهر النظام الرأسمالي عارياً اليوم بكل جوهره، اللا إنساني المعادي للطبيعة والمدمر للقوى المنتجة مادياً وروحياً والمشيّأ للإنسان» حسب ما يؤكده الدكتور محمد المعوش.
يمارس الغرب ساديته المفرطة معبراً عن سلوك استعماري متأصل في بنيته، لا يأخذ فيه العنف شكلاً أو نمطاً واحداً، فهو ليس بالضرورة أن يكون بدنياً، عبر ممارسة التعذيب على جسد المستعمَر، بل يمكنه أن يكون عنفاً اجتماعياً ونفسياً واقتصادياً أيضاً. والهدف من العنفين، هو هندسة النظام الاجتماعي الموجود والمقاوم لمحاولة إلغائه.

ازدواجية الغرب ليست وهماً

تكفي بعض حوادث الأولمبياد لفضح الازدواجية الغربية في التعامل بين دول الشمال ومحاولات هيمنته على دول الجنوب، والرد على المشككين من أنصار الديمقراطية الغربية المزعومة والمدافعين عنها. ففي حادثة غير متوقعة، تم اعتقال توم كريج، لاعب الهوكي الأسترالي المعروف، في شوارع باريس إثر محاولته شراء الكوكايين. وأثارت مشاركة لاعب كرة الطائرة الشاطئية الهولندي ستيفن فان دي فيلد المتهم باغتصاب فتاة بريطانية، 12 عاماً، وأمضى فترة محكومية بالسجن بعد ثبوت التهمة عليه حالة من استهجان شعبي عبّر عنه الجمهور لدى ظهور اللاعب في الميدان لأول مرة في ألعاب باريس.
فازت إيمان خليف بالمعركة الرياضية ورفعت علم بلادها، ونالت تشجيع ومساندة الكثير من الناس على مستوى العالم. واليوم تخوض معركة قضائية ضد من تنمر عليها. وسواء أنصفها القضاء الفرنسي أم لم يفعل فقد خلقت قضيتها نقاشاً حول الكثير من المفاهيم السائدة. وفتحت باب أسئلة كثيرة تحتاج اليوم للإجابات.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1188