عقل العالم القديم: إصلاحية فـفوضوية فـ«شيوعية مبكرة»
المعركة الأيديولوجية التي يديرها العالم القديم معقدة وفي تصاعد واشتداد مستمر، وهذه إحدى تنبؤات إنجلس بشكل خاص. ولهذا التصاعد ملامحه التي لا تنحصر فقط في تصاعد التيار العدمي اللاعقلاني الذي مررنا على ذكره في مواد سابقة، ولكن أيضاً في استعارة العقل الذي يحاول الحفاظ على هيمنته للمذاهب «الثورية» وتطويعها في مسار: من الإصلاحية الى الفوضوية إلى «الشيوعية المبكرة».
من الإصلاحية إلى الفوضوية
كلما فرض الواقع، وفي سياق الصراع السياسي، الحاجة إلى المرجعية الفكرية الثورية، وبشكل خاص الماركسية، كلّما تصدى العقل الذي يحاول الحفاظ على هيمنته لذلك بتكتيكات مختلفة، ومن المناورات التي يحاول فيها ذلك العقل المناورة استيعابُ المرجعية الفكرية الثورية وإعادة إنتاجها من أجل تعطيل قوتها الثورية. وهذه المناورات تختلف في خصائصها مع اختلاف المرحلة وشروط الصراع فيها.
ويمكن القول إنه في القرن الماضي، ومع تصاعد الموجة الثورية الأولى شكَّل العقل الإصلاحي الاقتصادوي النقابوي رأس حربة تعطيل التيار الثوري (وأبرز ما يميز الاتجاه الاقتصادويّ/النقابويّ أنه يروّج لجعل سقف نضال العمال والكادحين محصوراً بالنضال الاقتصادي المباشر ويهمل أو يكبح التنظيم السياسي لحركتهم). وهذا لا ينفي أنّ التيار الفوضوي وتيار «الشيوعية المبكرة» كانا حاضرين، ولكن -ودون أن يعني ما يلي اختزالاً- يمكن القول إنّ طبيعة القوى الاقتصادية والاجتماعية والمستوى الذي وصلته التناقضات في حينها التي حكمت الإنتاج والأسئلة العامة غلب عليها طابع توسع الرأسمالية في مرحلتها الإمبريالية، وخصوصاً في كون دول المركز كانت ذات طابع إنتاج حقيقي، ما جعل من الطابع الاقتصادي مركز الثقل، وكانت هوامش الفوضوية والشيوعية المبكرة أقلّ نسبياً، والسبب العام هو عدم نضج البنية الاجتماعية لهذين التيارين، خصوصاً قضايا التطور التكنولوجي والعلوم، ومدى الديمقراطية البورجوازية المطبق وقتها، ومدى نضج الطبقة العاملة، ومدى تعقيد جهاز الدولة، والتي دونها ودون غيرها من العوامل الكثيرة في الإنتاج والبنية الفوقية بشكل عام، لا يمكن الكلام عن مجتمع ما بعد رأسمالية. ولكن من حينها خطت المجتمعات خطوات كبيرة في تطور عوامل الإنتاج وعوامل البنية الفوقية. ومعها أيضاً اشتدت التناقضات في الرأسمالية.
هذا التطور، بالترافق مع أزمة في الاقتصاد الرأسمالي، وفقدان هوامش التوسع، عظّم من القاعدة المادية للتطرف. فصار للتيار «الثوري الفوضوي» في العقود الماضية مركز الثقل في المناورة التي تقوم بها القوى التي تحاول الحفاظ على هيمنتها وعقلها من أجل تعطيل زخم تطور القوى الاجتماعية وعقلها. وتسمح بتلك الخلاصة مراجعةٌ عامة لملامح الحركة السياسية عالمياً في العقود الماضية وخصوصاً كيف تم اختطاف الحركة الشعبية منذ «الثورات الملونة» في العالم ومنطقتنا.
من الفوضوية إلى «الشيوعية المبكرة»
إن الفوضوية في العقدين الماضيين كانت محمولة على شرط عام هو حد أدنى من الانتظام الاجتماعي السياسي الاقتصادي الأمني المعيشي. ولكن ومع تعمق الأزمة في العالم بشكل عام، وتحديداً في الدول التي تصاعدت فيها الفوضى، فإنّ تيار الفوضوية كتيّار أيديولوجي له مقولاته وسرديته تشارك السّاحة مع تيار «الشيوعية المبكرة» الذي صار له الغلبة. هذا التحول في شكل المناورة التي يقوم بها العقل الذي يحاول الحفاظ على هيمنته يقوم على واقع اشتداد حدة التطرف والاستقطاب في الرأسمالية، وتحديداً كإجابة «ثورية» لمسار التطرف البربري. فالمسار البربري له مقولات وسرديات تنتمي للعقل المثالي الأسود خلال التاريخ، ولكن هناك حاجة لتغليف ذلك العقل بملامح «ثورية» كون القوى الاجتماعية عالمياً لم تتحول بالكامل إلى مستوى الوجود الرث. فالقوى التي وصلت إلى مستوى الوجود الرث اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً يمكن لها استهلاك مادة العقل المثالي الأسود الذي يبرر إلغاء الواقع والعقل على السواء، ولكن وبسبب من التطور غير المتكافئ عالمياً، فإن هناك قوى اجتماعية ما تزال تتسم بالانتظام وبعلاقة مع الواقع، وهذه القوى بالتحديد هي التي يجري التصويب عليها بسردية «الشيوعية المبكرة» كتحريف لرؤية ثورية مادية تاريخية، وهذا مررنا عليه في عدة مواد سابقة. وتيار «الشيوعية المبكرة» في اعتماده على أفكار الشيوعية «كما هي»، تحديداً قضايا جهاز الدولة والجيش النظامي وغير ذلك من الأجسام الاجتماعية التي تطرح الماركسية الكلاسيكية تجاوزها بالمعنى التاريخي وليس بالمعنى المرحلي.
التقاء أرقى مذهبين فلسفيَّين
إن التقاء المذهب المثالي المتطرّف في شكليه المثالي والمادي، الذي هو أكثر المذاهب المثالية تعبيراً عن الانقسام الفلسفي بين المادة والوعي (والذي بهذا المعنى التطوّري نصفه بأنه في «أرقى» أيْ في «أعلى درجة تطور» وصل إليها هذا الانقسام)، مع المذهب المادي التاريخي، الماركسية، الذي هو أرقى مذهب مادي تعبيراً عن وحدة وتوليف المادة مع الوعي، والذات مع الموضوع، كتجاوز للانقسام الاجتماعي في نهاية التحليل، هو تعبير آخر بلغة أخرى، عن أن التناقضات التاريخية وصلت إلى حدودها التاريخية، والواقع يستدعي كلا المذهبين. وما استعانة العقل المهيمن بمقولات الماركسية الكلاسيكية وتوظيفها في سياق مبكر لها، من أجل تفجيرها، إلا تعبير ليس فقط عن ضيق هوامش المناورة التي لدى العقل الانقسامي الذي يحاول أن يحافظ على هيمنته، من خلال استعانته المباشرة بالماركسية الكلاسيكية، ولو تحريفياً خارج السياق التاريخي والواقعي.
في مهام الماركسيين
التحليل أعلاه يعني أنّ الصراع الأيديولوجي يتصاعد أكثر فأكثر ويضع مهام تطوير الماركسية بما تتطلّبه المرحلة وتناقضاتها، ويفترض حكماً عدم الوقوع في فخ الجمود والنصوصية، الذي يعتمد عليها تيار «الشيوعية المبكرة»، وهذا التطوير يحصل ولكن يجب تعميقه لحل التناقضات بشكل جذري، أيْ وضع مهام تجاوز المجتمع البضاعي الاستهلاكي المنقسم على جدول الأعمال التاريخي، ولكن بما يتلاءم مع الشروط الموضوعية لا خارجها. وهذا يسمح بالحكم بالضرورة على مختلف التكتيكات والاستراتيجيا التي يعتمدها العالم القديم في تنفيذ جدوله النقيض. وهذا يعني بالضرورة متابعةً لتطور القوى «الماركسية والشيوعية» على وقع هذه المناورة التي يقوم بها العقل المأزوم، فتأخر القوى عن التطوير الحيّ للماركسية سيضعها اليوم، كما وضَعَها سابقاً، في خندق مشروع البربرية.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1189