صُنع في غزة

صُنع في غزة

تؤكد الأحداث صحة الحقيقة العلمية التي تقول بأنه لا يمكن تغيير الواقع إلا بعد فهمه جيداً وإدراك العلاقات الداخلية التي تحكم تطوره. وقد تعلمت حركة المقاومة دروسها بالتجربة المباشرة وطورت نفسها وأدواتها على ضوء فهم عميق ومتقدم لواقعها الخاص وارتباطاته بموازين القوى المتغيرة في عالم يغلي ويتغير كل يوم.

مر تاريخ المقاومة الفلسطينية بمرحلة كانت المواجهات فيها مع العدو غالباً ما تتم على أرضية من صنعه ومناسبة له، وتضطر المقاومة حينها أن تلعب لعبته بقوانينه هو فينتصر عليها غالباً. لكن الموقف تغير لاحقاً وتغيرت المعادلة خاصة بعد الانتفاضة، إذ تمكنت المقاومة من تغيير قواعد اللعبة واستدراج العدو إلى أرضيّة تناسبها، وبذلت في ذلك جهداً فكرياً نظرياً مضافاً إلى جهودها السياسية والعسكرية ودماء شهدائها. وقدمت لجماهيرها أشكالاً من النضال تَألفه وتستطيع التعامل معه. لم يكن هذا التطور يسيراً وسهلاً بل كان نتيجة لتجارب ومحاولات عديدة ومختلفة تنجح في بعضها وتخفق في أخرى، ولكنها تسير بثبات دون أن تفقد البوصلة باتجاه الهدف.
طورت المقاومة الفلسطينية مفهوماً نوعياً جديداً خاصة أثناء إدارتها للانتفاضة وما بعدها، استخدمته لاحقاً ليحل لها الكثير من المشاكل. إذ تعامل الاحتلال الصهيوني ولفترة طويلة مع مفهوم إدارة مركزية محدد «مركز قوي وأطراف ضعيفة»، وبحكم العادة كان يلجأ في عدوانه على المقاومة والشعب الفلسطيني إلى تكتيك خاص يقوم من خلاله بـ«ضرب القيادة أو اختراقها»، وفعل ذلك مرات عديدة نجح في كثير منها. ولم يكن بالإمكان مواجهة هذا التكتيك دون إيجاد صيغة متوازنة ومناسبة تحكم العلاقة الداخليّة لحركة المقاومة وقاعدتها الاجتماعية والجماهيرية على مستوى التنظيم والقرار. تأخذ العلاقة فيه بين «المركز والأطراف» شكلاً مرناً ومركّباً وله أوجه متعدّدة. وللمفارقة كان للعدوان المتكرر على قطاع غزة وحصاره لفترة طويلة تأثيره في تحقيق تطابق تنظيمي ووجودي مع الرقعة الجغرافية الموجودة فيها، إذ أصبحت غزة قطعة جغرافيّة متحدّية للاحتلال وحصاره. وصارت أكثر مركزية وترابطاً في مواجهة التحديات التي يفرضها الحصار الخانق. كما صارت المسافة ما بين السياسي والعسكري فيها على مستوى القرار أضيق ممّا كان سابقاً.

كلهم أبطال

تقوم منظومة المقاومة بتغيير مفهوم القائد «البطل- الأوحد – المخلص»، واستبداله بمفهوم قيادة جماعية مسؤولة وفاعلة وقد لا تكون مرئية حتى، أمثلته واضحة بالظهور الإعلامي لقياداتها ملثمة، وهو تكتيك أهدافه أبعد من فكرة حماية القادة، نال استحسان جمهور واسع من الشباب، وتجاوباً وتعاطفاً كبيراً من الناس حول العالم. يضرب مفهوم «البطولة الجماعية» بالعمق كل الأشكال القديمة والتقليدية الراسخة في الوعي الجمعي للناس عبر التاريخ للقيادة ويجعلها مجالاً للنقاش، إضافة إلى كونه سلاحاً في وجه الاحتلال يفسد عليه إمكانية ضرب المقاومة ونشر الفراغ في قيادتها من خلال تصفية أشخاص ورؤوس محددة، يدرك الصهيوني أنه لا يمكن محاربة هذا النموذج، فما إن يقم بتصفية أحد القادة بأي مكان حتى يحل محله آخر.
من جهة أخرى منح تحول الفعل المقاوم إلى حالة جماعية معاشة يومياً، للأفراد مزيداً من الثقة بأنفسهم وبإمكاناتهم الشخصية، وزودهم بمزيد من الصبر والتفهم والتعقل وإدراك نماذج المواجهة المختلفة وزاد من قدرتهم على فهم قائمة أهداف العدو من وراء سلوكياته المختلفة وخاصة المتوحشة منها وإفشالها، فالإنسان عندما يضيق ذرعاً بالواقع السيء المعاش قد يدفعه ذلك إلى مواقف في غير مصلحته. وقد صب الاحتلال تركيزه وجهوده في الأشهر الماضية على استخدام أبشع أساليب العنف والوحشية بهدف تركيع المقاومة من خلال التأثير على حاضنتها الشعبية بحيث تدفعهم، تحت تأثير الغضب والخوف، إلى طرح مواقف سياسية تؤدي بهم إلى الاستسلام.

جيش أم عصابة قتل

تدفع غزة قادة الكيان وداعميهم إلى حافّة الجنون، غزّة التي لوت ذراع جيشه المتغطرس، وتصدّت بلحم أطفالها، وصبر وصمود رجالها ونسائها، رغم الدمار والموت والدماء التي أغرقها به «الجيش الأكثر أخلاقيّة في العالم»، أفشلت أهدافه في استعادة قوّة الردع وترميم هيبة جيشه الّتي تحطّمت في السابع من أكتوبر، فما كان من هؤلاء إلا محاولة اقتناص صورة نصر موهوم في بيروت وطهران والجولان، من خلال الاغتيالات.
لم توقِف عملية الاغتيالات المقاومة، بل على العكس من ذلك، فقد أظهرت أن جيش الاحتلال ليس سوى مجرّد «عصابة قتل»، وأوضحت للعالم كله أن فشل هذا الجيش في تحقيق «النصر» على حركة مقاومة صغيرة نسبياً، حطّمت خطوط دفاعه، واخترقت حواجزه اللوجستيّة والإلكترونية، وذلك رغم أنه حشد كامل احتياطه البشريّ وإمكانياته الناريّة والتدميريّة في حرب تخلى فيها عن كلّ القيود الأخلاقيّة، وامتهن قوانين الحرب وصولاً إلى ارتكاب جرائم الإبادة الجماعيّة.
وكان يراد لعمليّات الاغتيال أن تغطّي على هذا الإخفاق، ولكنها أفضت إلى نتيجة عكسيّة لكونها أضاءت على الفشل المدوّي لهذا الجيش في أرض المعركة ليس في غزّة فقط، بل وعلى جبهات الإسناد أيضاً.

مفارقة مثيرة!

ثمة مفارقة مثيرة لموضوع الاغتيالات، وهي وقوع ما يشبه عمليّة تبادل الأدوار، فقد جرّت جيش الكيان للاعتراف ضمنياً أنه مجرد «عصابة مسلّحة»، وبهذا يفقد قيمته كجيش نظاميّ، وبالمقابل، أظهرت تحول ما كان الصهاينة يطلقون عليه اسم العصابة، وبالأحرى «العصابات المسلّحة الفلسطينيّة واللبنانية» إلى «جيش» تعجز دولة الاحتلال بمؤسساتها وقدراتها التدميرية وداعميها عن مواجهتها في غزّة، وفي جنوب لبنان.
يأمل قادة الكيان زيادة شعبيتهم وشعبية طروحاتهم في الداخل وانتزاع صورة انتصار ما زالوا عاجزين عن تحقيقه منذ عشرة شهور، بحيث يمكنهم استخدامه مبرراً لمواصلة الحرب بطريقتهم. ومع ذلك فإن خياراتهم محدودة؛ فلا يبدو اليوم أنهم أقرب إلى تحقيق أيّ من هدفَي الحرب المعلنين، القضاء على حماس وإطلاق الأسرى، في الوقت الذي تتزايد فيه ضغوط الشارع والمؤسسة العسكرية التي باتت تلحّ في طلب هدنة نتيجة التعب والإنهاك المستمرَّين.
بالمقابل فقد وضع الاغتيال قيادات المقاومة، خاصة في الخارج مجدداً في قلب النقاش العام جماهيرياً، كونها دفعت ثمن مواقفها من دمائها ودماء أبنائها، وأنها تقدّم بذلك تضحيات مثل أهل غزة المحاصرين في الداخل. وهكذا يضرب الاحتلال بنفسه السردية التي اشتغل عليها ومنصاته الإعلامية خلال شهور الحرب حول افتراق أجندة قيادة المقاومة في الخارج عن هموم الشارع.
يعزز هذا التوجه مستوى الضيق الذي باتت تعبّر عنه دول كثيرة حول العالم من سلوك دولة الاحتلال التي تتصرف مثل دولة مارقة باتت تتجاوز أبسط القواعد والأعراف المتوافق عليها لخوض الصراعات والحروب بما فيها قتل الطرف الذي تخوض المفاوضات معه!

معلومات إضافية

العدد رقم:
1187