تعطيل الممارسة -الفعل  سؤال.. المعرفة.. والبربرية

تعطيل الممارسة -الفعل سؤال.. المعرفة.. والبربرية

في سياق تناقض بربرية-حضارة وتعطّل إمكانية المجتمع الطبقي المنقسم وقواه على المناورة للحفاظ على الانقسام التاريخي، ونقاش الحدود الفلسفية للمثالية لهذا التعطل والذهاب إلى مثالية متطرفة في إلغاء العقل والواقع، هنا نتناول قضية الممارسة المرتبطة بالثنائية الفلسفية، ومعناها السياسي للمشروع النقيض.

الانقسام الفلسفي وسؤال المعرفة

في سياق تاريخ الصراع الفلسفي، إضافة إلى السؤال الأنطولوجي،(و«الأنطولوجيا» ontology في الفلسفة تعني «علم الوجود» الذي يمثّل الشق الأول من المسألة الأساسية في الفلسفة؛ في صيغة: هل الواقع/العالَم (المادّة) موجود بشكل مستقل عن وعينا وسابق للوعي، أم أنه مجرّد تخيّلات مصدرها وعينا؟ وعلى أساس الإجابة تصنّف المذاهب الفلسفية إلى مادية أو مثالية)، أي التساؤل عن وجود الواقع بالمعنى الموضوعي، هناك سؤال مركزي هو سؤال إمكانية معرفة هذا الواقع، أو السؤال الإبستمولوجي، («الإبستمولوجيا» epistemology تعني «علم المعرفة» أو «نظرية المعرفة» وتمثّل الشق الثاني من المسألة الأساسية في الفلسفة، في صيغة: هل يمكن للوعي البشري معرفة العالَم والحقيقة أم لا؟ وعلى أساس الإجابة تصنّف المذاهب الفلسفية إلى «عَرفانيّة» في مقابل «اللاعرفانية/اللاأدريّة» وهذه الأخيرة مثاليةٌ دوماً)، والسؤال المركزي في ارتباط داخلي. وهذا ما كان ماركس قد صاغه في مقولة «في السابق قام الفلاسفة بتفسير العالَم، بينما المطلوب تغييره»، أي أنّ الفعل في الواقع هو الطريق لمعرفته. فالواقع وتناقضاته التي تفرض حلّاً لها انطلاقاً من جوهرها الداخلي هو ما يتطلب ممارسةً محددة تسمح بالنفاذ إلى الجوهر وبالتالي إلى معرفةٍ مجرَّدة وقابلةٍ للتعميم.

التحضير للمذهب المثالي المتطرِّف

في سياق نقاش بربرية-حضارة صار من الواضح أنّ القوى التي تحاول الحفاظ على المجتمع المنقسِم، وعقلها، لم يعد أمامهما إلّا التطبيق التاريخي لجوهر المذهب المثالي المتطرف، الذي في محاولته للحفاظ على الانقسام الفلسفي بين العقل والواقع، يتّجه، في إجابته على السؤال الأنطولوجي في الفلسفة، إلى إلغاء الواقع (المذهب المثالي المتطرِّف) وإلغاء العقل (المذهب المادي المتطرِّف الذي هو في جوهره مذهبٌ مثاليّ) على السواء. ولكن هذا النموذج المتطرف الذي نرى معالمَه السياسيّة اليوم بالمعنى الملموس جرى التحضيرُ له في السنوات السابقة، من خلال إجابةِ القوى التي تحاول الحفاظ على هيمنتها وعقلها على السؤال الإبستمولوجي في الفلسفة (معرفة الواقع) عبر ضرب إمكانية تلك المعرفة، من خلال ضرب الممارسة التي هي شرط تلك المعرفة. وهذا ما كنا شهدناه في العقود الماضية لتطوّر الليبرالية من خلال ضرب الممارسة المبدِعة الفاعلة والتأسيس للدور السلبي للقوى البشرية، وهذا لا ينحصر في ضرب وشيطنة فكرة الممارسة السياسية النضالية، وضرب العمل الحزبي، التي هي أقصى شكل من الممارسة التاريخية الفاعلة، ولكن أيضاً في تعميم كل أشكال الاستهلاكيّة الروحيّة والماديّة في كلّ القطاعات، وتعزيز الكسل التاريخي تجاه القضايا الموضوعية لدى الغالبية العظمى، التي ابتعدت عن قضايا المجتمع وغرقت في ذاتية مفرطة هي جوهر الليبرالية الفردانية الاستهلاكية.

معالم ضرب الممارسة و«لا إمكانية المعرفة»

إنّ مِن نتائج ضرب الممارسة الإجابةُ السلبية على السؤال الإبستمولوجي (المعرفي) في الفلسفة، ولهذا بدأنا نسمع في سنواتٍ قريبة سابقة شعارات ومقولات لدى الغالبية العظمى من المجتمع حول عدم إمكانية معرفة ما يحصل، تارةً تحت عنوان سياسيّ هو «غموض ما يحصل في الصِّراع العالمي» و«المؤامرة الغامضة» وغيرها، وتارة تحت عنوان أكثر تجريداً بالمعنى الفلسفي هو أنّ «الواقع غير مفهوم»، و «لا أحد يمكنه فهم ومعرفة ما يحصل»، وبـ«أن العالم غير قابل للمعرفة». هذه الشعارات التي تكون مغلَّفةً في سرديّات أكثر تعقيداً غالباً ما تكون محاطةً بهالة من الذاتية المتطرّفة تحت عنوان أنّ «كلّ إنسان ينتج حقيقتَه الخاصة»، و«كلّ وجهات النظر حقيقيّة»، و«لا حقيقةَ واحدة»، إلخ. من العناوين العدميّة التي لا تضرب معرفة الحقيقة فحسْب، بل وفكرة وجودها أساساً، ومن هنا العلاقة الداخلية بين ضرب إمكانية المعرفة وبين ضرب فكرة وجود الحقيقة الموضوعية الواحدة.

الممارسة في صلب المشروع النقيض

عودة إلى نقاشات جوهر المشروع النقيض للحفاظ على حضارة البشرية من خلال تطويرها في مواجهة البربرية واللاعقلانية والعدمية، وضرب وجود الواقع والعقل على السواء، يمكن البناء على العلاقة بين الممارسة وبين المعرفة وإلغاء الانقسام الفلسفي، الذي هو إلغاءٌ وتجاوزٌ للانقسام التاريخي الاجتماعي والاقتصاد المؤسِّس له (البضاعي الاستهلاكي)، الانقسام بين الفرد والواقع، الذي هو انقسامٌ طبقيٌّ في جوهره، بين الجماعة البشرية وبين واقعها الاقتصادي ومصيرها التاريخي. أيْ أنّ المدخلَ إلى المشروع الحضاري النقيض هو في تعزيز مسألة الممارسة، أيْ مسألة الفعالية التاريخيّة، وهذا ليس بجديد، بل هو استعادةٌ لعنوان إشراك الجماهير في العملية السياسية ومسائل الإدارة، وقبل ذلك هو إشراكُها في الصراع وجذبُها إليه من موقعها الفاعل لا المتلقّي.
إنّ إشراك القوى الاجتماعية في مواجهة تعميم اللاعقلانية وضرب بنيتها العقلية نفسها، من أجل إغراقها في بربرية حيوانية، هذا الإشراك هو قاعدةُ تعظيم «موازين القوى» في مصلحة المشروع النقيض، وسحب البساط من تحت المشروع البربريّ، لا من أجل المواجهة فقط، بل من أجل بناء المجتمع البديل النقيض، وبناء الإنسان الجديد. علينا العودة إلى كل إحداثيات الفلسفة الماركسية الكلاسيكية حول قضايا بناء الإنسان الجديد، فإنسان اليوم غيرُ قادرٍ على تخطّي مشروع التدمير ضمن إطار إحداثيات عقله وشخصيّته ونفسيته الراهنة. وهذا قد يصحّ بشكلٍ خاصّ في المجتمعات التي ما زالت تملك حدّاً أدنى من الانتظام يسمح لها بذلك، ولكنّه قد يكون أصعبَ في أماكنَ هي اليوم على حافّة الجوع والعوز والفوضى الاجتماعية والاقتصادية، وصارت أقرب إلى البربرية، وهذا تحديداً ما تواجهه دولُ الصراع في الشرق الأوسط وبعض دول شماليّ وشمال شرقيّ أفريقيا، أي الدول الأكثر حماوة. ما يردّنا إلى مسألةِ أمميَّةِ المواجهة، فتعزيز الدول التي ما زالت تملك انتظاماً داخلياً عالياً يسمح بإنقاذ تلك التي تتدهور نحو الفوضى أكثر فأكثر.

خلاصة عامة

لأنّ الواقع اليوم يكشف عن جوهره بشكل أكثر تجريداً وصراحةً ووضوحاً فإنه بالضرورة يصل إلى مستوى الوجود «الفلسفي»، ونقاشه من الناحية الفلسفية ضرورة، وهذه المادة كما غيرها تحاول التشديد على كيف أنَّ ربط الصراع التاريخي الفلسفي بما يحصل اليوم من صراع تاريخي اقتصادي-سياسي ملموس، هو في صلب إيجاد فهمٍ أكثر تجريداً للمرحلة، يبني عليه المشروعُ النقيضُ برنامجَ عمله الملموس، وجوهر هذه المادة هو أنّ المشروع البربري في ضرب الواقع والعقل على السواء تطلَّبَ ضرباً للممارسة كقاعدةٍ لضرب المعرفة، ولهذا فإنّ المشروعَ النقيض يتطلّب العكس؛ أيْ تعزيز الممارسة الفاعلة كقاعدةٍ لمواجهة اللاعقلانية، وتعزيز بناء العقل الذي يجري العمل على تفتيته، من خلال الاشتراك في القبض على الواقع كمسارٍ وحيدٍ للحفاظ على الواقع نفسِه من خلال رفع الإنسان إلى مستوى الإنسان السياسيّ التاريخيّ.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1188