مثقّفو اليسار الغربي والدعاية الإمبريالية (4)
(الولايات المتحدة ليست ديمقراطية ولم تكن كذلك قَطّ)، بهذه الحقيقة عَنوَن الباحث غابرييل روكهيل مقالاً سابقاً كتبه لموقع (كاونتربانش) عام 2017، حيث علّق فيه على مَن يتباكون على ما يسمّى (خسارة الديمقراطية) في الولايات المتحدة. ويعلّل روكهيل ردّ فعل هؤلاء المخدوعين بأنّه يرجع في جزء كبير منه إلى ما يمكن اعتباره (أنجَحَ حملة علاقاتٍ عامّة في التاريخ الحديث).
تعريب وإعداد: ناجي النابلسي
في مقاله المذكور كتب روكهيل: (المشكلة أنه ليس ثمّة أيّ تناقض أو خسارة مفترضة للديمقراطية، لأنّ الولايات المتحدة لم تكن ديمقراطية قَطّ. إنها حقيقة يصعب على الكثير من الناس مواجهتها، ومن المرجَّح أن يكونوا أكثر ميلاً إلى رفض مثل هذا الادعاء على الفور باعتباره غير معقول بدلاً من أخذ الوقت الكافي للتدقيق في السجلّ التاريخي المادّي لكي يحكموا بأنفسهم. لكن ما سنلاحظه، إذا تمّ فحص هذا السجلّ بشكل رصين ومنهجي، هو أنّ الدولة التي تأسّست على حكم النخبة الاستعمارية القائم على سلطة الثروة - وباختصار، الأوليغارشية الاستعمارية البلوتوقراطية - لم تنجح فقط في شراء لقب الدولة «الديمقراطية» لتسويق نفسها للجماهير، بل وجعلت مواطنيها، وكثيرين غيرهم، يُستَثمَرون اجتماعياً ونفسياً في أسطورةِ أصلِها القوميّ، لدرجةٍ جعلتْهم يرفضون سماعَ الحجج الواضحة والموثَّقة جيّداً التي تقول عكس ذلك).
- في هذا الجزء الأخير من المقابلة التي أجرتها مع روكهيل (مجلة الاشتراكية العالَمية) الصينيّة يسأله محاوِرهُ جاو دينغكي: (لطالما نظر الغرب إلى الولايات المتحدة باعتبارها نموذجاً للديمقراطية اللّيبرالية. لكنك تعتقد أنّ أمريكا لم تكن ديمقراطية أبداً. هل يمكنك توضيح وجهة نظرك؟).
من الناحية الموضوعية، لم تكن الولايات المتحدة دولة ديمقراطية على الإطلاق. لقد تأسست كجمهورية، وكان الآباء المؤسسون المزعومون معادين للديمقراطية بشكل علني. وهذا واضح من (الأوراق الفيدرالية)، والمذكرات التي تم تدوينها في المؤتمر الدستوري لعام 1787 في فيلادلفيا، والوثائق التأسيسية للولايات المتحدة، بالإضافة إلى الممارسة المادية للحكم التي تم تأسيسها في الأصل في مستعمرة المستوطنين.
(ملائكة) بِيض و(متوحّشون) هنود
كما يعلم الجميع، فإن سكان أمريكا الأصليين، الذين أشار إليهم إعلان استقلال الولايات المتحدة باسم (المتوحشين الهنود الذين لا يرحمون)، لم يُمنَحوا سلطةً ديمقراطية في الجمهورية حديثة العهد، بل تمّ فوق ذلك جلب العبيد من إفريقيا... ينطبق الشيء نفسه إلى حَدٍّ كبير على العمّال البيض العاديين. وكما وثّق باحثون مثل تيري بوتون بالتفصيل: «لم يعتقد معظم الرجال البيض العاديين أن الثورة [المسمّاة بالأمريكية] انتهت بحكومات جعلت مُثُلها ومصالحها هي الهدف الأساسي. بل على العكس من ذلك، كانوا مقتنعين بأن النخبة الثورية أعادت تشكيل الحكومة لصالحها وقوّضت استقلالَ الناس العاديين. ففي نهاية المطاف، لم يقم المؤتمر الدستوري بإجراء انتخابات شعبية مباشرة للرئيس أو المحكمة العليا أو أعضاء مجلس الشيوخ.
(من يملك يحكم)
كان الاستثناء الوحيد هو مجلس النواب، ومع ذلك تم تحديد المؤهلات من قبل المجالس التشريعية في الولايات، والتي كانت تتطلب دائماً تقريباً حيازة الممتلكات كأساس لحق التصويت. ليس من المستغرب إذن أن يشير النقّاد التقدميون إلى هذا الأمر حتى آنذاك. فلقد صرح باتريك هنري بصراحة فيما يتعلق بالولايات المتحدة: (إنها ليست ديمقراطية)، ووصف جورج ماسون الدستور الجديد بأنه (أجرأ محاولةٍ لتأسيس أرستقراطية استبدادية بين الأحرار شهدها العالم على الإطلاق).
على الرغم من أن مصطلح (الجمهورية) كان يستخدم على نطاق واسع لوصف الولايات المتحدة في ذلك الوقت، إلا أن هذا بدأ يتغيّر في أواخر عشرينيّات القرن التاسع عشر، عندما أدار أندرو جاكسون - المعروف باسم (القاتل الهندي) أيضاً بسبب سياسات الإبادة الجماعية التي اتبعها - حملةً رئاسية شعبوية. لقد قدّم نفسه على أنه (ديمقراطي)، بمعنى المواطن الأمريكي العادي الذي سيضع حداً لحكم الأرستقراطيين من ماساتشوستس وفيرجينيا. على الرغم من عدم إجراء أيّ تغييرات هيكلية في أسلوب الحكم، بدأ السياسيون مثل جاكسون وغيره من أعضاء النخبة ومديريهم في استخدام مصطلح (الديمقراطية) لوصف الجمهورية، إيحاءً منهم بأنها تخدم مصالح الشعب، في حين كانت هذه (الديمقراطية) بالطبع كنايةً عن حكم الطغمة البرجوازية.
انتزاع تنازلاتٍ ديمقراطية
في الوقت نفسه، كان هناك قرنان ونصف من الصراع الطبقي في الولايات المتحدة، وكثيراً ما فازت القوى الديمقراطية الحقيقية بتنازلات كبيرة جداً من الطبقة الحاكمة. فتم توسيع مجال الانتخابات الشعبية لتشمل أعضاء مجلس الشيوخ والرئيس، على الرغم من أن (المجمع الانتخابي) لم يتمّ إلغاؤه حتى الآن، ولا يزال قضاة المحكمة العليا يعيَّنون مدى الحياة! واستطاعت تضحيات الطبقة العاملة ونضالات السُّود انتزاعَ توسيع الامتيازات لتشمل النساء والأمريكيّين من أصل أفريقي والأمريكيّين الأصليّين. وهذه مكاسب كبرى ينبغي بطبيعة الحال الدفاع عنها وتوسيع نطاقها من خلال إصلاحات ديمقراطية عميقة للعملية الانتخابية والحملة الانتخابية برمّتها.
إنّ تعبيراتٍ من قَبيل الديمقراطية البرجوازية، والديمقراطية الرسمية، والديمقراطية اللّيبرالية غالباً ما تُستَخدَم، لأسبابٍ مختلفة، لفهرسة هذا الشكل من حكم الأثرياء. ومن الصحيح أيضاً، وممّا يستحق التّأكيد، أنّ وجود بعض الحقوق الديمقراطية الرسمية في ظلّ الحكم البلوتوقراطي يعدّ بمثابة انتصارٍ كبير للطبقة العاملة لا ينبغي التقليل من أهمّيته. إنّ ما نحتاج إليه في نهاية المطاف هو تقييم ديالكتيكي يفسّر مدى تعقيد أنماط الحكم، والتي تشمل سيطرة القلّة في الولايات المتحدة على الدولة، والحقوق المهمّة التي تمّ اكتسابها من خلال الصراع الطبقي.
ولكن على الرّغم من أهمية هذه التطورات الديمقراطية، إلا أنها لم تغيِّر النظام العامّ لهيمنة حكم أرباب المال (البلوتوقراطيين.( في دراسة مهمّة للغاية تعتمد على تحليل إحصائيّ متعدد المتغيرات، أظهر مارتن جيلينز وبنجامين آي بيج أنّ (النخب الاقتصادية، والمجموعات المنظَّمة التي تمثل المصالح التجارية، تملك تأثيرات مستقلة كبيرة على سياسة الحكومة الأمريكية، في حين أنّ المواطنين العاديّين ومجموعات المصالح الجماهيرية ليس لديهم سوى القليل من التأثير المستقلّ أو أنّهم بلا تأثير).
تدويل الحكم التسلّطي
هذا الشكل البلوتوقراطيّ من الحكم ليس فعّالاً على المستوى المحلّي فحسب، بل على المستوى الدولي أيضاً. لقد حاولت الولايات المتحدة فرض شكلها غير الديمقراطي من القواعد حيثما أمكنها ذلك. وفقاً لبحث ويليام بلوم المضني، سعت الولايات المتحدة الأمريكية، بين نهاية الحرب العالمية الثانية وعام 2014، إلى الإطاحة بأكثر من خمسين حكومة أجنبية، معظمها منتخَبةٌ ديمقراطياً، ممّا يزيد تأكيدَ حقيقة الولايات المتحدة بوصفها إمبراطورية بلوتوقراطية، وليست (ديمقراطية) بأيّ مقياسٍ موضوعي لهذا المصطلح.
لقراءة الجزء الأول من المقال: مثقّفو اليسار الغربي والدعاية الامبريالية (1)
لقراءة الجزء الثاني من المقال: مثقّفو اليسار الغربي والدعاية الإمبريالية (2)
لقراءة الجزء لثالث من المقال : مثقّفو اليسار الغربي والدعاية الإمبريالية (3)
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1162