مثقّفو اليسار الغربي والدعاية الإمبريالية (3)
يتطرّق الباحث والناقد الثقافي الماركسي غابرييل روكهيل إلى ما يُعرف بـ«سياسات الهُويّة»، فيقول إنه «بدلاً من الاعتراف بأنّ أشكال الهُويّة العِرقية والقومية والجِنسانية والجنسية، وغيرها، هي بُنى تاريخية تختلف مع مرور الزمن وتنتج عن قوى مادّية محدَّدة، يتم تأبيدها كأنها أساس لا جدال فيه لدى الدوائر السياسية الرأسمالية... مما يحجب القوى المادية التي تعتمل خلفها، والصراعات الطبقية التي تدور حولها».
تعريب وإعداد: ناجي النابلسي
في هذا القِسم من المقابلة التي أجرتها مع روكهيل (مجلة الاشتراكية العالمية) الصينية، يسأله محاوره جاو دينغكي: (كيف تفهم دور ووظيفة سياسات الهوية و«التعددية الثقافية» السائدة حالياً في اليسار الغربي؟). وفيما يلي عرضٌ لجوابه (بتصرّف).
سياسات الهوية، مثل التعددية الثقافية المرتبطة بها، هي مظهر معاصر للثقافوية والأصولية التي ميّزت الأيديولوجية البرجوازية لفترة طويلة. وهذه الأخيرة تسعى إلى تطبيع العلاقات الاجتماعية والاقتصادية الناتجة عن التاريخ المادّي للرأسمالية، بما ينفع الطبقة الحاكمة والمديرين الذين تعيّنهم. وبما أنّهم اضطرّوا إلى الاستجابة لجزء من المطالب والنضالات ضدّ الاستعمار والعنصرية والأبوية، لم يجدوا طريقةً لكبح تجذير هذه النضالات أفضل من سياسات «الهُويّة الجوهرية» التي تقترح حلولاً زائفة لمشاكل حقيقية للغاية، حيث لا تعالج أبداً الأساس المادي للاستعمار والعنصرية والقمع بين الجنسين.
وحتى النسخ التي نصّبت نفسها بأنها مناهضة لهذه السياسات، والتي نجدها في أعمال منظّرين مثل جوديث بتلر، لا تنفصل عن هذه الأيديولوجية. لقد سعوا إلى تفكيك بعض هذه المقولات من خلال اعتبارها بُنيات خطابية يمكن لأفراد أو مجموعات استجوابها والتلاعب بها وإعادة أدائها، لكنّهم كمنظّرين يعملون ضمن المعايير التفكيكية المثالية لا يقدّمون أبداً تحليلاً مادياً جدلياً للتاريخ؛ للعلاقات الاجتماعية الرأسمالية التي أنتجت هذه المقولات/الفئات واضعةً إيّاها في مواقع «رئيسية» للصراع الطبقي الجماعي. كما أنهم لا ينخرطون في التاريخ العميق للنضال الجماعي للاشتراكية الموجودة بالفعل لتحويل هذه العلاقات. بدلاً من ذلك، يعتمدون على التفكيك وعلى نسخة لا تاريخية من نَسَب فوكو للتفكير في «الجَندر» والعلاقات الجنسية، ويتوجَّهون على الأكثر نحو تعدّدية ليبراليّة تقوم بإحلال مناصرة مجموعات المصالح (اللّوبيّات) بديلاً عن الصراع الطبقي.
غطرسة الأكاذيب ومَسح الذاكرة
على النقيض من ذلك، فإنّ التقليد الماركسي، كما أظهر دومينيكو لوسوردو في عمله الرائع (الصراع الطبقي)، لديه «تاريخ عميق وغني في فهم الصراع الطبقي بصيغة الجمع. وهذا يعني أنه يتضمن معارك حول العلاقة بين الجنسين والأمم والأعراق والطبقات الاقتصادية»، ويمكننا أن نضيف الجنس. وبما أنّ هذه الفئات اتخذت أشكالاً هرمية محدّدة جداً في ظلّ الرأسمالية، فقد سعت أفضل عناصر التراث الماركسي إلى فهم مصدرها التاريخي وتحويلها جذرياً. يُلحَظُ ذلك في النضال الطويل ضد العبودية المنزلية المفروضة على النساء، ومعركة تحرّر الأمم وشعوبها من التبعية للإمبريالية. بالطبّع مرّ هذا التاريخ بفترات متقطعة ولا يزال هناك الكثير من العمل يجب القيام به، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن بعض «سلالات» الماركسية - كالأممية الثانية - قد تلوّثت بعناصر من الأيديولوجية البرجوازية. ومع ذلك، وكما أثبت باحثون مثل لوسوردو وغيره، فإنّ الشيوعيين كانوا في طليعة هذه الصراعات الطبقية للتغلب على الهيمنة الأبوية، والتبعية الإمبريالية والعنصرية، من خلال الذهاب إلى جذور هذه المشكلات: العلاقات الرأسمالية.
سعت سياسات الهوية، كما تطورت في البلدان الإمبريالية الرائدة وخاصة الولايات المتحدة، إلى دفن هذا التاريخ من أجل تقديم نفسها هي كشكلٍ جديد جذرياً من الوعي، كما لو أنّ الشيوعيين لم يفكروا كثيراً في مسألة المرأة! أو مسائل الوطنية أو العنصرية... وعلى هذا فإنّ منظّري سياسات الهُوّية يميلون إلى التأكيد، بغطرسةٍ وجهل أو تجاهل، على كذبة أنهم أوّل من عالج هذه القضايا، زاعمين أنهم يتغلّبون على «الحتمية الاقتصادية» لدى الماركسيين الاختزاليّين المبتذَلين. وبدلاً من الاعتراف بهذه القضايا كمواقع للصراع الطبقي، يميلون إلى استخدام سياسات الهُويّة كإسفينٍ ضد السياسات الطبقية. وإذا قاموا بأيّ إشارة تدمج الطبقة في تحليلهم، تَراهم يختزلونها إلى مسألة الهُويّة الشخصية، بدلاً من علاقة المُلكية الهيكلية. ولذلك يميلون إلى طرح حلولٍ ثانوية، تركز على قضايا التمثيل والرمزية، بدلاً من التغلّب، مثلاً، على علاقات العمل الخاصة بالعبودية المنزلية والاستغلال العنصري من خلال التحويل الاشتراكي للنظام الاقتصادي الاجتماعي. وهم بالتالي غير قادرين على إحداث تغيير كبير ومستدام لأنهم لا يصلون إلى جذور المشكلة. وكما جادل أدولف ريد جونيور، فإنّ أنصار الهُويّة سعداء تماماً بالحفاظ على العلاقات الطبقية القائمة، بما في ذلك العلاقات الإمبريالية بين الأمم، وأود أن أضيف: بشرط وجود النسبة المطلوبة لتمثيل المجموعات المضطهِدة داخل المجتمع (الطبقة الحاكمة والطبقة الإدارية المهنية التي تخدمها).
تقسيم اليسار والتخادم مع الفاشيّة
بالإضافة إلى المساعدة في تهميش السياسات والتحليلات الطبقية داخل اليسار الغربي، ساهمت سياسات الهُويّة بشكلٍ كبير في تقسيم اليسار نفسه إلى مجموعة من النقاشات المنعزلة حول قضايا هُويّة محدَّدة. فبدلاً من الوحدة الطبقية ضدّ عدوّ مشترك، فإنّها تَقسم وتَقهَر العمال والمضطهَدين (تُفرِّقُ وتَسودُ) من خلال تشجيعهم على تحديد هويتهم أوّلاً وقبل كلّ شيء كأعضاء من أجناس وجنسيات وأعراق وأمم وأديان وطوائف، وما إلى ذلك. وفي هذا الصدد، فإنّ أيديولوجية سياسات الهُويّة هي في الواقع، على مستوى أعمق بكثير، سياسةٌ طبقية في نهاية المطاف ولكنْ طبقيّة برجوازيّة، تهدف إلى تقسيم الشُّعوب العاملة والمضطهَدة في العالم من أجل السيطرة عليها بسهولة أكبر. لا ينبغي أن يكون مفاجِئاً إذن أنْ تكون هذه السياسة هي الحاكمة في قلب الإمبريالية. إنها تهيمن على مؤسساتها ومنافذها المعلوماتية، وهي إحدى الآليات الأساسية للترفيع الوظيفي ضمن ما يسميه ريد «صناعة التنوّع». إنّها تحثُّ جميع المشاركين على التماهي مع مجموعتهم المحدَّدة لهم، وتعزيز مصالحهم الفردية عبر التظاهر بأنهم ممثّلوها المميَّزون. ينبغي أن نلاحظ أيضاً أنّ هذه السياسة لها تأثير في دفع بعض «معارضيها» إلى أحضان اليمين. فإذا كانت الثقافة السياسية السائدة تشجّع عقلية الانتماءات الفئوية الضيّقة الممزوجة بالفردية التنافسية، فليس مستغرَباً أنّ متطرّفين بِيض مثلاً، وكردّ فعل جزئي على حرمانهم من حقوقهم بسبب صناعة «التنوُّع» الزائف هذه، يدفعون بأجنداتهم الخاصة باعتبارهم «ضحايا» للنظام. وبالتالي فإن سياسات الهوية الخالية من التحليل الطبقي قابلةٌ تماماً للتخادم المتبادَل مع اليمين وحتى مع الفاشية.
سياسة طبقيّة
أخيراً، سأكون مقصّراً إذا لم أذكر أنّ سياسات الهُويّة، التي لها جذورها الأيديولوجية الحديثة في «اليسار الجديد» والشوفينية الاجتماعية التي شخّصها لينين سابقاً لدى اليسار الأوروبي، هي إحدى الأدوات الأيديولوجية الرئيسية للإمبريالية. لقد تمّ استخدام استراتيجية (فرِّقْ تَسُدْ) لتقسيم الدول المستهدفة من خلال تعزيز الصراعات الدينية والطائفية والعرقية والقومية أو بين الجنسين. كانت سياسات الهوية أيضاً بمثابة مبرّر مباشر للتدخّل الإمبريالي، وحملات زعزعة الاستقرار. حيث لعبت دور الأسباب المزعومة «لتحرير المرأة» في أفغانستان، ودعم مغنّي الرّاب السُّود الذين «يتعرضون للتمييز» في كوبا، ودعم السكان الأصليين «الاشتراكيين البيئيين» المزعومين المرشَّحين في أمريكا اللاتينية، أو «حماية» الأقليات العرقية في الصين، أو غيرها من العمليات الدعائية المعروفة، التي تقدم فيها الإمبريالية الأمريكية نفسها على أنها المُحسن الذي يتصدَّق على الهويات المضطهدة. يمكننا أن نرى هنا بوضوح الانفصال التام بين سياسات الهوية الرمزية البحتة والواقع المادي للصراعات الطبقية، بقدر ما يمكن للسياسة الأولى أن توفر غطاءً رقيقاً للإمبريالية، وهي تفعل ذلك بالفعل. وعلى هذا المستوى أيضاً، فإنّ سياسات الهُويّة هي في نهاية المطاف سياسة طبقية: سياسة الطبقة الحاكمة الإمبريالية.
لقراءة الجزء الثاني من المقال: مثقّفو اليسار الغربي والدعاية الإمبريالية (2)
لقراءة الجزء الأول من المقال: مثقّفو اليسار الغربي والدعاية الامبريالية (1)
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1161