سيكولوجيا الانتصار الشعبي نقيضاً لفردانيّة الفاشيّة والليبراليّة (2)
إعداد: ناجي النابلسي إعداد: ناجي النابلسي

سيكولوجيا الانتصار الشعبي نقيضاً لفردانيّة الفاشيّة والليبراليّة (2)

يقول الباحث روبنشتاين في مقاله عن «السيكولوجيا السوفييتية زمن الحرب» المنشور في مجلة «تحت راية الماركسية» عام 1943 بأنّ «الحقائق التي لا تقبل الجدل والمتكررة يومياً عن البطولة التي لا مثيل لها للشعب السوفييتي، الذي دافع ضدّ الغزاة الفاشيين، تُظهر لنا باستمرار كيف أن المهمّ اجتماعياً، الذي أصبح مهماً شخصياً للفرد، يثير فيه قوى أعظم بكثير من تلك التي تم استحضارها بالرغبات الشخصية وحدها، وتختلف عنها في محتواها وأصلها وأهميتها». نتابع في هذا الجزء قراءة هذه الأفكار ربطاً ببطولة الشعب الفلسطيني الذي يكرّر مأثرةً يجب الإضاءة على أهمّيتها العميقة في الحلّ التقدمي للتناقض بين الفردي والجماعي أثناء نضال الشعوب لتحرّرها.

يقول روبنشتاين: «لكي يشبع الإنسان احتياجاته الخاصة عليه أن يجعل إشباع الحاجات الاجتماعية هو الهدف المباشر لأفعاله. بهذه الطريقة، يتم تحويل غايات الفعل الإنساني عن علاقتها المباشرة باحتياجاته الفردية، وفي البداية فقط بشكل غير مباشر، يبدأ ما هو مهم للمجتمع في تحديد سلوكه. من حيث المبدأ، فإن هذا يعني الانتقال إلى أشكال جديدة من الدوافع البشرية، والتي ترتبط وراثياً بالاحتياجات المكيفة عضوياً وتختلف عنها نوعياً. ومن خلال تنظيمه الاجتماعي يصبح الإنسان عضواً وممثلاً للكل الاجتماعي؛ تصبح الدوافع الاجتماعية دوافعه الشخصية، بقدر ما يصبح هو نفسه عضواً وممثلاً للجماعة. وهكذا فإنه يرتقي فوق مستوى الوجود العضوي المجرد ويصل إلى مستوى الوجود الاجتماعي الذي تنطوي عليه أشكال السلوك والدوافع البشرية الجديدة البحتة. إن طبيعة الدوافع الأخلاقية واندفاعها مشروطة بأشكال الحياة الاجتماعية وعلاقتها بالفرد. إن المهم اجتماعياً، الذي يصبح مهماً شخصياً مع بقائه مهماً اجتماعياً، يثير في الميول الفردية قوى عظيمة».
يمكننا ملاحظة هذا الكلام وهو يتجلّى عمليّاً كذلك لدى الشعب الفلسطيني أثناء نضاله ضدّ الفاشية الصهيونية، ويقدّم لنا صمود هذا الشعب بوجه الاعتداءات المتكررة ومنها العدوان الحالي على غزة، أمثلةً تستحقّ التوقف عندها والتفكير فيها بعمق، الأم أو الأب الذي تظهر أمام الكاميرا من بين الركام حاملاً أطفاله الجرحى أو الشهداء ويصرخ بذلك الغضب النبيل ضد وحشية العدوّ الصهيوني، نراه في الوقت نفسه يصرّ على عبارات التضحية ودعم المقاومة وقيم الافتداء – يرتقي الفردي إلى الجماعي ويندمج فيه ويوحّدهم المصاب والمصير. وليس ثمة أدنى شكّ في صدق هذا الموقف؛ فمن المستحيل أنْ يستطيع إنسان أن «يمثّل» أو يدّعي أمام مصابٍ بهذا الحجم، الأمر الذي يبرهن على لحظاتٍ شديدة العمق والأهمية بالمعنى الإنساني والسيكولوجي والاجتماعي.

مهمّات السيكولوجيا التقدّمية زمن الحرب

يعتبر روبنشتاين واحدة من أعظم مهام علم النفس هي دراسة: (أ) كيف تنشأ هذه الدوافع الأخلاقية وتعمل، وكيف يرتقي الفرد فوق ما هو شخصي مجرد إلى ما هو مهم اجتماعياً، وكيف يصبح المهم اجتماعياً مهماً شخصياً بالنسبة له؛ (ب) وبأي طريقة تدخل هذه الدوافع في عملية تنمية الشخصية، سواء كنتيجة أو كشرط مسبق لتكوين الصفات الأخلاقية للفرد.
وعلى هذا الأساس تم اعتبار مشكلة دوافع السلوك البشري من أهم الأسئلة التي واجهت علم النفس السوفييتي. وحوله تمركزت أعمق مشكلات التربية والتعليم. وتتعلق دراسة الدوافع بسلوك الجندي في ميدان المعركة، كما لها أهمية في أعمال إعادة تأهيل الجريح، من حيث عودته إلى الجبهة، بعد غياب طويل إلى حد ما عن البيئة العسكرية، واعتياده على الحياة في المستشفى كمريض محاط باهتمام خاص. وتتطلب الرعاية إعادة بناء جادّة لنظام الدوافع بأكمله الذي يكيّف مخطّط حياته العام. إلى حد ما، هناك حاجة إلى إعادة بناء مماثلة لإعادة المحاربين القدامى المعاقين إلى الحياة المدنية والذين ربما يكون غيابهم القسري عن العمل قد تسبب في تكوين ميول ومواقف تابعة. النقطة المركزية والحاسمة في مشكلة الدوافع هي مسألة علم النفس والأيديولوجية، وعلم النفس والأخلاق، والعلاقة بين ما هو اجتماعي وما هو مهم شخصياً.

وحدة الشخصيّ والاجتماعي

ينتقد روبنشتاين المحاولات المثالية لتحقيق وحدة الاجتماعي والشخصي من خلال الاعتبارات التأملية وحدها. ويشدد على أنّ الأمر يحتاج إعادة تنظيم حقيقية للعلاقات الاجتماعية، في انسجام مع المذهب المادّي الديالكتيكي الذي يرى أهمّية العوامل المادّية والاقتصادية-الاجتماعية فيما ينتج عنها من بنيان فوقي. ويلحظ روبنشتاين بأنّ إعادة بناء العلاقات الاجتماعية الحقيقية في ثورة أكتوبر العظيمة هي التي جعلت من الممكن تحقيق الوحدة الفعلية بين الاجتماعي والشخصي، والتي أظهرت أهمية كبيرة في السلوك البطولي للعديد من أبناء الشعب السوفييتي في الحرب، سواء على الجبهة في المقدمة، أو في الخطوط الخلفية.
إن الديماغوجيين الفاشيين يصرخون بلا انقطاع بأنّ كل شيء شخصيّ يجب أن يخضع لمصالح «الكلّ»، ومع ذلك فإنهم يكيّفون كل تلفيقاتهم «الإيديولوجية» للحفاظ على نظام اجتماعي قائمٍ على الاستغلال الأكثر شراسة، والعداء الأكثر مرارة بين المصالح، نظام لا يمكن فيه تحقيق أيّ وحدة حقيقية لما هو مهمّ على المستوى الشخصي والاجتماعي. ومن أجل خدمة أهدافهم السياسية، فإنهم يبنون نظريتهم البيولوجية للمجتمع على أساس الدم والعرق؛ إنهم يأملون في انتزاع التضحيات من الشعب باسم «الكل»، في حين أن الطبيعة الاجتماعية لهذا «الكل» في الواقع مصمّمة لقمع كل ما هو إنساني حقاً في الشخصية الإنسانية.
في ظل ظروف المجتمع الاشتراكي يمكن للمهمّ اجتماعياً أنْ يصبح مهماًّ شخصياً بينما يظل مهماً اجتماعياً. في الاتحاد السوفيتي بطور صعوده كانت هناك وحدة حقيقية بينهما. ومن ناحية أخرى، عارضت الفلسفة المثالية هذه الوحدة ميتافيزيقياً، وقطعت وحدة الخبرة والمعرفة الشخصية وحصرت الوعي في مجال التجربة الذاتية. أما المعرفة الموضوعية، التي تحولت إلى «كائن مثالي» أو شيء «متعالٍ»، كانت خارج الوعي. في المقابل، كان العامّ يتناقض مع الوعي الفردي ويُستبعَد منه؛ كان المهمّ اجتماعياً يتناقض خارجياً مع المهمّ فردياً. كانت الأخلاق، باعتبارها التزاماً مثالياً، تتعارض خارجياً مع الدوافع الحقيقية للإنسان، والتي كانت تعتبر غير أخلاقية. وبهذه الطريقة، تمّ إفراغ الوعي الإنساني من محتواه، وتشكلت التناقضات الميتافيزيقية الخارجية، مما أدى بالفكر الفلسفي النفسي إلى طريق مسدود.

الفاشية والصهيونية تربّي «حيواناتها البشرية»

إن التناقض الخارجي للعوامل الأيديولوجية الأخلاقية مع الدوافع الطبيعية للإنسان استبعد هذه العوامل الأخلاقية من مجال الوجود الحقيقي للشخصية الإنسانية. منذ البداية، استخدمت الفاشية هذا التشويه للطبيعة البشرية في نظريتها وممارستها للتأكيد على فكرة الإنسان وتعزيزها كحيوان، من سلالة أعلى أو أدنى، يعيش بالغرائز الطبيعية البدائية المتأصلة في الدم والعرق. ولهذا السبب أعلنت الفاشية أن الأيديولوجية نفسها ليست سوى «الميزان النظري» للوظائف الحيوية للجنس، والغريزة الجامحة للوحش البشري من سلالة محددة، الذي لا يعرف أي قانون آخر غير إشباع شهواته؛ أما بالنسبة للأيديولوجية الفاشية، فيمكن الاعتراف بأن هذا هو الحال. ففي البداية تم استبعاد القوى الإيديولوجية الأخلاقية التي تشكل أكثر ما هو إنساني في الإنسان، ومن ثم تم تشويه الإيديولوجية نفسها إلى انعكاس للطبيعة الإنسانية التي حُرمت من كل ما هو إنساني حقاً. إن القضاء على هذا التشويه الفظيع لمفهوم الإنسان وضميره، وكذلك لجميع المسلّمات النظرية التي تقوم عليها، هو من أكثر مهام الفكر النظري إلحاحاً.

الاستعداد للبناء السلمي بعد هزيمة الفاشية

في ذلك الوقت لفت روبنشتاين إلى أن البناء السلمي الهائل، الذي سيتعيّن تنفيذه في الاتحاد السوفييتي بعد انتهاء الحرب وانتصاره فيها، يثير عدداً من المشكلات التي يجب الاستعداد لها «منذ الآن»، والتي سيؤدي حلّها إلى توسيع دور علم النفس. وينوّه إلى المهمة الهائلة المتمثلة بتربية الجيل القادم. ويجب إعداد الكوادر المؤهّلة لذلك في المؤسسات التربوية والتعليمية، بما فيها المدارس الثانوية، والجامعات من مختلف الاختصاصات.

التخادم بين النيوليبرالية والفاشية

أخيراً، لا بدّ أنْ نلاحظ الدور التخريبي للنهج الليبرالي الجديد في بلادنا ومنطقتنا، ليس فقط بمعنى التدمير الاقتصادي للبنية التحتية للمجتمع وإفقاره ونهبه بالفساد، بل وكذلك تدميره أخلاقياً ونفسياً وثقافياً وتفكيكه اجتماعياً وتعزيز الفردانية والأنانية، إنه تدمير ممنهج «للنواة الثقافية» لأيّ مقاومةٍ حقيقية فعّالة ضدّ الفاشيات المعاصرة من واشنطن إلى تلّ أبيب، وفي لحظات تاريخية مفصلية كالتي نعيشها في المعركة الحالية مع هذا العدوّ تظهر النتائج القذرة والكارثية لهذا النهج الليبرالي، مما يتطلّب كنسه وتصفيته نهائياً كشرطٍ ضروري للقضية الوطنية، كما للقضايا الاقتصادية-الاجتماعية والديمقراطية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1152