الحقيقة عن الذاكرة العائلية
يشير مفهوم الانتماء إلى حاجة الفرد الأساسية لصحبة الآخرين. فالانتماء هو المعنى العكسي للاغتراب. يمتلك الإنسان دافعاً نحو الاعتزاز بالانتماء إلى جماعة والإحساس بالمسؤولية تجاهها، والشعور بالرضا الذي ينبع من التعاون مع المجموعة.
ونبحث كذلك عن تعددية أوساط الانتماء وبالتالي تعددية أشكال التنشئة الاجتماعية، (فالتنشئة الاجتماعية التي تسمح حسب ما يؤكده كلود دوبار بتشييد الهويات الاجتماعية، لا تختصر إذاً في جميع الأحوال إلى مجرد انتقال للمعايير والقيم، واليوم هناك ميل لتعريفها على أنها مجمل التمثلات التي يشيدها الفرد بنفسه).
أي نشأة نوع من المعيار أو الصورة الجماعية للسلوك المفروض أن يكون مقبولاً داخل هذه الجماعة. بحيث يصبح للجماعة معيار جماعي معين ومتفق يدفع الفرد إلى الالتزام بها أو تعديل سلوكه بما يتناسب مع معايير الجماعة العامة.
تلعب العائلة دوراً أساسياً في بناء الهوية الفردية للإنسان. فالمرء يولد في عائلة، وتشكل حياته سياقاً من خلال قيم وتجارب وخصائص اجتماعية ورمزية متعددة ومتنوعة تنتقل إليه من تاريخ عائلي، وتاريخ شخصي كان قد عاشه في الطفولة قبل أن يستقل بشخصيته كفرد ناضج في مجتمع.
تتعدد الوظائف المختلفة للذاكرة العائلية، وفي مقدمتها وظيفة نقل الموروث العائلي بطقوسه المتعددة والمتنوعة (طريقة الأمهات في صنع الطعام وأسلوب تناوله، الأغاني المترافقة مع العمل أو الأفراح، الأدوات التي يستخدمها الأجداد..إلخ)، تتغذى ذاكرة الفرد على أشياء قد لا تملك قيمة بذاتها، لكنها تملك وظيفة الحفاظ على الموروث ونقله، بحيث تكتسب الهوية دلالتها المرجعية التي غالباً ما تدوم طويلاً من صميم «نحن»، أي العائلة. يمكن ملاحظة النقل الرمزي المكون للرابطة العائلية مثلاً في المحافظة على الأشياء التي غالباً ما تكون دون أهمية أو قيمة ومع ذلك يتعلق بها الفرد كثيراً، فيحتفظ بشغف بساعة جده القديمة أو صندوق والده الخشبي. في مجتمع استهلاكي تكون فيه هذه الأشياء غير ذات قيمة من الناحية التجارية.
الذاكرة الحسية
تؤسس الوظيفة الثانية «الإحياء» لما يمكن تسميته الهوية الحميمة الخاصة بكل واحد، خاصة أنها ترتبط بشكل وثيق بالتجربة الوجدانية الحسية، من خلال وظيفة الإحياء، فيستدعي المرء حياته كطفل، وتجاربه المباشرة والحميمية لماضيه ضمن العائلة، عواطفه ومشاعره، هنا تكون الذاكرة الحسية أساسية ومركزية، فالروائح والمذاقات والأصوات التي يستعيدها، إضافة إلى أشكال المكان الذي عاش فيه، يمكن أن تحيله إلى لحظات ممتعة أو مؤلمة، لأن الذاكرة يمكنها إحياء أشكال المعاناة، والمقصود هنا هو الذكريات الخاصة التي قدم عنها مارسيل بروست صورة واضحة وهو يصف كيف «أن مذاق قطعة حلوى يعيد من جديد بعث حياته كطفل صغير..»
وهناك وظيفة أخرى للذاكرة العائلية، وظيفة التفكير والتأمل، وظيفة تقييم وتشييد لمصيره الخاص، وغالباً ما تدفع المرء أن يستنفر ذاكرته من أجل استخلاص درس، أو تحديد موقعه نسبة لعائلته. حيث نسمع كثيراً من يقول «لقد كنت أعاني، لذلك لن أفعل هذا مع أطفالي». أو على العكس من أجل أن يحفظه بدوره وينقله. في هذه الحالة يحدد المرء موقعه بالنسبة لماضيه لكي يناقش بشكل أفضل انخراطه في الحاضر وهويته الاجتماعية والحميمية والوجدانية.
تتغذى الذاكرة بشكل رئيسي عن طريق الاجتماعات العائلية والاحتفالات..إلخ، حيث تنسج الهوية العائلية بالمحصلة من هذه القصص التي يعيد المرء اختلاقها ويعيد امتلاكها مع كل جيل وهي قصص مصنوعة من ذكريات صغيرة عن هذه اللقاءات.
لا تقتصر العائلة على التعاضد والدعم، هي أيضاً مكان للعديد من الصعوبات التي قد تسبب المعاناة، وتتنوع الصعوبات فهناك مثلاً ظاهرة قلب في أدوار الأجيال إذ يصبح بعض الأبناء دعماً لآبائهم.
الصدمات التي يمكن أن تعاني منها العائلة صدمة القيم التي يمكن أن توجد بين الأجيال، كما أن الاختلاط الموجود في المجتمعات الحالية يؤدي إلى مقارنة بين ثقافات عائلية مختلفة (طرق التحية.. العناق..)، يمكن لصدمة الثقافات العائلية هذه أن تؤدي إلى صراعات وأيضاً يمكن أن تولّد إغناء.
الدور الرئيسي للنسيان
ولكن لا يمكن الكلام في الحقيقة عن الذاكرة العائلية من دون الكلام عن الدور الرئيسي للنسيان مثلاً، لأنه يتدخل كي يسمح بتدخل التجديد والتعبير عن قيم جديدة من أجل خلق التغيير الاجتماعي من جيل لآخر، لا يمكن أن نكون نسخاً عن بعضنا البعض، إن النسيان- حتى لو بدى ذلك من المفارقات- شرط لذاكرة حية نتسائل خلاله عما سنحافظ عليه أو نهمله، وفي المجال الوجداني سيكون للنسيان وظيفة كبت، لن نرغب واعين أم لا، أن نتذكر بعض الأشياء التي تسبب ألما شديداً، دور النسيان مركزي لأن الفرد يقوم بنوع من عملية الفرز يناقش فيها ماضيه من أجل بناء مستقبله.
الإذْعانُ: هو «الخُضُوعُ والانْقِيَادُ» حسب ما يرد في اللغة، إذ يشير الإذعان إلى استجابةٍ -على وجه التحديد، خضوع- لطلب، قد يكون الطلب صريحاً، أو ضمنياً وقد يدرك المستهدف، أو لا يدرك أنه يُحثّ على التصرف بطريقة معينة.
القوة الدافعة وراء الامتثال
يتمحور علم النفس الاجتماعي حول فكرة التأثير الاجتماعي الذي يعتبر القوة الدافعة وراء الامتثال، ويؤكد علماء النفس أن التأثير الاجتماعي يمتد إلى أبعد من سلوكنا- إلى أفكارنا ومشاعرنا ومعتقداتنا- وأنه يأخذ أشكالاً متعددة. تُعد دراسة الامتثال أمراً مهماً لأنها نوع من التأثير الاجتماعي الذي يؤثر على سلوكنا اليومي وبشكل خاص على التفاعلات الاجتماعية.
ويعود فِعْل الإذعان إلى جملة من العوامل، منها: تنفيذ المستضعَف أو المذعِن أوامر السلطة الأعلى ظناً منه أنَّ مَنْ فوقه هو المسؤول عن أفعاله. وقبول التفسيرات التي تعطيها السلطة لتبرير سلوكها تجاه الأحداث.
الخوف من العقاب
غالباً ما تستمد النظم الأمنية السلطوية شرعيتها من الخطر وإعادة إنتاجه. حيث يتحول الخطر إلى أداة تحكم وهيمنة تستطيع تلك النظم من خلالها أن تفرض حالة الأستثناء عبر جهاز الدولة.
توجد تحديات تواجه الفرد في بيئته الاجتماعية، لذا يقوم بما يتوقعه منه الآخرون خشية من التهديد بالعقاب النفسي، مثلاً، عدم التقبل الاجتماعي ونبذ المجتمع له، ولذلك تعمل هذه المطالب كضغوط على الفرد أن يخضع لها إذا أراد الاستقرار وإقامة علاقة فاعلة في بيئته الاجتماعية، لكن هذه المفاعيل لم تستطع أن تأخذ دورها الحقيقي في الأسرة السورية أثناء الحرب بسبب حالة التفكك وانقسام الأسرة جسدياً من خلال الهجرة والموت والتشرد..إلخ، وبالتالي تفشي حالة التفكك النفسي والاجتماعي داخل ما تبقى منها.
وإذا كان الإذعان في الحالات العادية (أو ما يسمى الامتثال) له دور وظيفي في تناسق حياة العائلة واستمرارها، فإنه في الأزمات وخصوصاً الحرب يتحول الإذعان بسبب شدة الإفراط به إلى حالة تدميرية وتفكيكية للأسرة أو العائلة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1125