في تعايش العوالم الحضارية احتياطاً ضد تهمة «الاختزالية» (1)
في المواد السابقة تم عرض بعض الأفكار والطروحات في قضية الأزمة الحضارية الشاملة الناتجة عن أزمة النظام الرأسمالي، والتي تدفع إلى الردة عن كل ما هو تقدمي في التاريخ البشري، من أفكار وبنى اجتماعية وسياسية (كالدولة والعائلة وكل شكل منتظم من العلاقات الاجتماعية والعقلية)، باتجاه البربرية والفناء كشكل وحيد للمجتمع الموعود المسمى «ما بعد الرأسمالية» (الاسم الحقيقي هو «ما بعد المجتمع»). ولأن الاعتبار بأن القاعدة المادية للحضارة الرأسمالية المأزومة المتمثلة بالنمط البضاعي- الاستهلاكي هي المهيمنة وليست وحدها الموجودة ضمن صراع المتناقضات، يحتاج نقيضها إذاً إلى بعض المساحة، كونه هو يشكل أحد مداخل البديل الحضاري النقيض.
النقيض التاريخي الحاضر
ضمن ضيق مساحات المناورة المتاحة (عامودياً وافقياً)، تلك المساحات التي استغلتها في العقود الماضية على أساس التحول «الليبرالي- الفرداني» ودول الرفاه، في استعارة (وتحت ضغط) من نقيضها، أي الاشتراكية، فإن الرأسمالية تواجه انغلاق أفقها التاريخي. ونتيجة لهذا الانغلاق فالطريق الوحيد للحفاظ على بقاء جوهرها الطفيلي الناهب للثروة لحساب القلة، فهي تدفع باتجاه التدمير الشامل لكل الأشكال التي قد تشكل عائقاً لها. وهي بالتالي لا تواجه فقط نتائج المرحلة الثورية ضمن الصعود الثوري في القرن الماضي، بل هي تواجه كل ما هو عقلاني في الحضارة البشرية، وقاعدته المادية من انتظام اجتماعي، لأن بقاء هكذا نظام مع نتائجه الراهنة ضد الطبيعة وضد الإنسان عقلاً وجسداً هو بحد ذاته اللا عقلانية. ولذلك فهي تعادي الحياة ككل. والحياة بالتالي تدافع عن نفسها حسب خصوصية الجسم والميدان الذي يضع للتدمير (الدولة، العائلة، التقاليد، الأحزاب والعمل السياسي، النقابات، الإبداع الفني والعلمي...).
ولكن يجب التأكيد مجدداً أن مواجهة هذا التدمير يجب أن تكون رداً على ماهية النمط الذي تقوم عليه الرأسمالية كإنتاج بضاعي ونمط حياة استهلاكي ينتج الحضارة الفردانية الاغترابية والتي تشكل مادة وخزان التدمير المستمر (وليست الثورات الملونة المضادة والفاشية الجديدة إلا تعبيراً عنها تحت مشاريع «الانعتاق والحرية ضد الأنظمة الشمولية») ومصادر التيار العدمي والتفكيكي عقلياً واجتماعياً كتعبير عن عصر «اللا معنى» الذي تعيشه المليارات.
وفي هذا السياق، كل مجتمعات العالم هي ضمن هذا المسار التهديدي المحمول على هذه الأزمة الحضارية، ولا تستثنى منه الدول الصاعدة حكماً. ولكن ضمن هذه المجتمعات توجد أنماط حضارية «اشتراكية» وازنة تتعايش مع النمط الحضاري الاستهلاكي الفرداني التغريبي. ولكن ليس لها الهيمنة على مجمل الكتلة البشرية التي يجري الصراع عليها من قبل الإمبريالية لتوظيفها في صالح المسار التدميري باتجاه البربرية والعدمية ضمن الطور الانتقالي الطويل والمعقد والمتزامن والشامل. هذه «البقايا» الحضارية الموروثة من عصر الانتقال مهمة كونها إلى جانب باقي المؤسسات الاجتماعية والتراث التقدمي للبشرية هي أرقى ما تم الوصول إليه ضمن المسار الثوري ضد الرأسمالية. أي في كونها تشكل النقيض النابع من النظام القائم نفسه، ولا تنتمي إلى بنى سابقة على الرأسمالية، كالتقاليد والتراث القومي، والعلاقات التي تنتمي إلى المستوى الأهلي والقرابي، والتي على إيجابيتها الكبيرة اليوم، لا تشكل العنصر الوازن في تشكيل الرد على الأزمة الحضارية.
إن الرد يكون بنمط حياة نقيض للإنتاج البضاعي الاستهلاكي، قادر في ذات الوقت على وراثة المنتج الرأسمالي في نوعيه التقدمي والرجعي. أي في رد قادر على وراثة العلوم والتقدم الحاصل ضمن الرأسمالية، وقادر في ذات الوقت على الإجابة على أزماته، وفي جوهرها قضية التغريب كما هي معاشة اليوم. أزمة المعنى والدور ضمن علاقة الفرد مع عالمه. أي المعادلة المركزية لهيغل، حول كون الإنسانِ ضرورياً لغيره ولنفسه. وتحقيق هذه المعادلة اليوم لا يمكن أن يكون إلا على أساس الرد على أزمة وأسئلة المجتمع القائم، لكي يكون الفرد ضرورياً.
ومن هنا فإن الرد الضروري هو ذلك النمط القائم على المشاركة في تقرير المصير وتحول الإنسان إلى إنسان سياسي، واتساع التعريف الغرامشي عن المثقف العضوي، لكي يصير كل فرد بالمجتمع ضمن وظيفة المثقف العضوي. وإذا أردنا أن يصب هذا النقاش في مسار التماسك وتجميع الطاقات والتحصين قبل أن تم بناء مجتمع التطور الشامل، أي قبل تحقيق شعار لينين عن اشراك الجماهير في إدارة الدولة، يجب اشراكها في الصراع على نمط الحياة البديل. والمشروع الوحيد القادر على جذبها هو المشروع الذي يجيب عن الأسئلة الوجودية كما هي مطروحة، ليس في دول الدمار الشامل فقط، بل في الدول التي ما زالت لها هوامش تماسك واستقرار عالية. وبالتالي فإن هكذا مشروع هو مشروع أممي لتشكيل الجبهة الحضارية وبناء الكتلة التاريخية في الطور الانتقالي الطويل والمتزامن والمعقد. فإن كان الدفاع العسكري والتحول الاقتصادي عالمياً ومشتركاً بين قوى العالم الجديد، فإن التحول الحضاري الثقافي هو عالمي ومشترك وله برنامجه المشترك أيضاً.
العناصر الاشتراكية «الباقية»
حتى لا يقال بأن اعتبار كل المجتمعات اليوم تعيش هذه الأزمة الحضارية على هذا المستوى أو ذاك هو قول اختزالي، نعيد القول بأن بنى الحضارة المأزومة هي المهيمنة وليس وحدها القائمة، بل تتعايش مع بنى حضارية ما قبل رأسمالية، وما بعد رأسمالية (اشتراكية). وإذا كان مستوى الرد على أزمة حضارة العدمية واللا معنى، حضارة الفردانية والاستهلاك، يجب أن يكون على ذات الرقي السياسي، أي في انخراط الفرد في تقرير مصير مجتمع ضمن حضارة «صناعة التاريخ في زمن الرأسمالية»، فإن الاشتراكية قدمت هكذا طرح لأنها وبكل بساطة مارسته. وهذه الممارسة لا تزال حاضرة في تركة التجارب الاشتراكية بشكل خاص، والتجارب الأخرى «الجماهيرية» الأقل ثورية. ونقصد بهذه الممارسة هي أولاً المؤسسة الحزبية بالدرجة الأولى، كمرحلة أولية من التجارب الثورية، وما تم بناؤه وتحقيقه على أساس الثورات. كجهاز الدولة الذي ضم فيه قوى اجتماعية-طبقية مثلت مشاركة شعبية مضادة للديمقراطية البورجوازية. وهناك الانخراط في الميدان العلمي، الذي هو أيضاً علاقة للفرد مع العالم بالمعنى الممارسي اليومي تعادي الاستهلاك، وكذا هو الميدان الفني. إذاً، نقصد كل شكل من أشكال العلاقة الإبداعية مع العالم. هذه العلاقة الإبداعية حاضرة في هذه الدول، ولكن ليس لها الهيمنة في هذه المجتمعات. فليس كل جهاز الدولة الحالي له هذه الوظيفة، وليس كل الميدان العلمي (ولا الفنون أيضاً) خارج التأثير الاقتصادي للسوق والإيديولوجيا المهيمنة والمنهجيات «ما قبل ماركسية» (مثالية الميل) الحاضرة ضمن العلوم.
بالتالي ليست هذه «البقايا» هي التي لها الهيمنة ضمن اقتصاد السوق البضاعي الاستهلاكي، ومن هنا الخطر الدائم في كون الغالبية تشكل خزاناً احتمالياً ممكناً لمشروع التدمير والتفكك. ومجدداً، فإن التدمير والتفكك ليس خارجي الطابع والمنشأ بفعل «مؤامرة خارجية»، بل هو نابع من انهيار البنية الداخلية للظاهرة الاجتماعية والعقلية. واستمالة هذه القوى أو وقوعها في مستنقع العدمية والبربرية حصل ويحصل كل يوم.
ولهذا فإن هذه العناصر المنتمية إلى حضارة «صنع التاريخ» هي نموذج مبكّر لـ«مجتمع الحرية» يجب بناء برنامج وخطاب تعميمه على البشرية في وجه واقع اللاجدوى البربري. هذا البرنامج وهذا الخطاب ليس مطروحاً اليوم، بل ما هو مطروح شعارات دفاعية ومعظمها ينتمي إلى بنى ما قبل رأسمالية (تراثية وأهلية الطابع)، ومن هنا عدم كفايتها في تشكيل الرد على الأزمة الحضارية. وفي المادة اللاحقة سنوسع قليلاً حول بعض هذه العناصر المتبقية وكيف تعمل وما هي خصائصها «اللا- استهلاكية»، لأنها، مجدداً، هي نواة تذكر في الأدب و«الرومنسيات الثورية»، ولكنها اليوم تشكل عنصر المشروع الاجتماعي السياسي النقيض.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1124