عندما تفعل الكلمة أكثر من فعل النار
«ما أعرفه حقاً هو أن تاريخ العالم كان دائماً تاريخ ضعفاء، ولكنهم يملكون قضية محقة، يقاتلون الأقوياء الذين يستخدمون قوتهم لاستغلال أولئك الضعفاء، نحن لدينا قضية نقاتل من أجلها، الشعب الفلسطيني يفضل الموت واقفاً على أن يخسر قضيته.. ماذا أنجزنا؟ أنجزنا إثباتاً أن هذا الشعب لن يهزم أبداً، وسيستمر بالقتال حتى النصر. قلنا لكل شخص في هذا العالم إننا شعب صغير شجاع، وسيقاتل حتى آخر قطرة دم كي نجلب العدالة لنا بعدما فشل العالم بذلك».
الاقتباس السابق مأخوذ من مقابلة مصورة (فيديو) مع المناضل والأديب الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني أجراها معه الصحافي الأسترالي ريتشارد كارلتون في بيروت عام 1970. لم يختلف توصيف كنفاني السابق للشعب الفلسطيني وإرادته كثيراً حتى الآن، رغم أنه جرى ماء كثير منذ ذلك الحين، وشهد العالم تغيرات كبرى، ربما أهمها أن الكيان الصهيوني يعاني الآن من أزمات، ويمر بأضعف حالاته. ويذهب الخيال بعيداً، ماذا لو أن غسان كنفاني مازال حياً، يشاهد ما يحدث اليوم على مستوى العالم من تغيرات متسارعة!
يستمر الصحافي كارلتون باستفزاز غسان في المقابلة المذكورة، ويجيبه غسان بعزم ووضوح في الرؤية: «ليست حرباً أهلية، هذا شعب يدافع عن نفسه ضد حكومة فاشية». تؤكد هذه الجملة البعد المعرفي العميق الذي يستند إليه الأديب في توصيف حكومة الاحتلال التي تمثل رأس الحربة الأمريكية في المنطقة، و«رأس المال المالي الأشد رجعية» حسب تعريف ديمتروف للفاشية.
يمثل غسان كنفاني بسيرته النضالية وإنتاجه الثقافي أحد أهم النماذج لتطور سيرورة الوعي الوطني الفلسطيني والمقاومة، من خلال فهم عميق للقضية الأساس والمرتكزة على مضمون الهوية الوطنية الفلسطينية من جهة، وهوية الآخر «الصهيوني» من جهة أخرى، معتمداً على رؤية وتحليل ممنهج لدور الفكر والثقافة وأهميتهما للفعل النضالي المستند على علم ومعرفة حقيقيَّين وقيم إنسانية وأخلاقية، وبناء الحامل الاجتماعي لهذا الفعل «الشخصية المناضلة».
يركز كنفاني في دراسته المعنونة بـ (أدب المقاومة في فلسطين المحتلة)، والتي طرحت مقولة الأدب المقاوم لأول مرة، على أهمية الوظيفة التي ينبغي أن يلعبها الأدب، والثقافة بشكل عام مع بقية عناصر منظومة المقاومة. فالثقافة هي «الأرض التي ترتكز عليها بنادق الكفاح المسلّح»، حسب كنفاني، و «ليست المقاومة المسلّحة قشرة، هي ثمرةٌ لزرعة ضاربة جذورها عميقاً في الأرض، وإذا كان التحرير ينبع من فوهة البندقية، فإن البندقية ذاتها تنبع من إرادة التحرير».
ويستنتج كنفاني أن أدب المقاومة ينشأ رغم شراسة سياسات التجهيل والتضييق التي يتعرض لها الفلسطينيون تحت الاحتلال، فالهدف الذي تسعى إليه الإجراءات الصهيونية، هو محو الثقافة الفلسطينية، ويؤكد أن الظروف الموضوعية التي استولدت هذا الأدب وجعلته ينمو داخل الأرض المحتلة هي ظروف شاذة ونادرة وغير خاضعة لأي مقياس. إن أدب المقاومة ليس طارئاً بعد «النكبة»، حسب كنفاني، فقبل ذلك جرى مواجهة الانتداب البريطاني أيضاً بأدب مقاوم مثّله إبراهيم طوقان، وأبو سلمى (عبد الكريم الكرمي)، عبد الرحيم محمود وآخرون.
الشعر الشعبي قلعة المقاومة التي لا تهدم
تركز الدراسة على الشعر الشعبي الشفوي ودوره البارز منذ العشرينات، فقد ظل الأدب الشعبي بعد عام 1948 هو المكان الذي يعبر فيه الشعب المغلوب على أمره عن أشواقه. استخدم الشعر الشعبي كافة الوسائل التي يستطيع الذكاء الشعبي تجنيدها ليجعل منها سلاحاً وقت الحاجة، «الشعر الشعبي يفرخ في البراري والبيوت والأعراس والمآتم ويكون في غالب الأحيان إنتاجاً جماعياً يتطور كلما انتقل من لسان إلى لسان ويشكل ظاهرة ليس بالوسع وقفها مهما اعتمدت وسائل الإرهاب والبطش ولا يمكن العودة بها إلى مصدر واحد ليحل به العقاب ويفرض عليه السكوت». مُحيت قرى كثيرة عن الأرض على يد سلطات الاحتلال، ولكنها لم تستطع محو إرادة الفلسطينيين المُصرّين على ممارسة حياتهم والحفاظ على هويتهم.
كانت الأعراس في الجليل تتحول إلى مظاهرات عنف تندفع من تحت لسان القوّالين والشعراء الشعبيين، ولم يكن بوسع سلطات الاحتلال الصهيوني إلا أن تفتح النار على المتظاهرين واضطرت السلطات المحتلة في ما بعد إلى تقديم عدد كبير من القوّالين إلى الحاكم العسكري وأن تضع رقابة صارمة على تحركاتهم، ولكنها لم تفلح في قمع إيمانهم بقضيتهم، لأنه حسب كنفاني: «إيمان لا يتزعزع، لأنه إيمان موضوعي في نهاية المطاف بقضية أدب المقاومة التي تستولد بالتالي التزامات ومهمات لا يمكن لهذا الأدب أن يكون إذا لم يكرسها يومياً في كل حرف»
استطاع الشعر الشعبي أيضاً أن «يلوك في سخرية مريرة جارحة حتى العظم سمعة الخونة الذين يتعاملون مع العدو، ويجعل منهم مثلاً من أمثلة الانحراف الوطني»
حاول كنفاني إنجاز دراسة عن مجمل الأدب المقاوم في فلسطين المحتلة، ولكنه اضطر للتركيز على الشعر، وذلك له أسبابه الموضوعية في حينه، وقد أشار إلى تأخر القصة والمسرح بالتحول لظاهرة ذات فعالية في الواقع مثل الشعر.
أعرف نفسك.. وأعرف عدوك أيضاً
لم يكتف كنفاني في بحثه على دراسة الأدب المقاوم، بل تجاوزها إلى دراسة نقيضه المعروف بالأدب الصهيوني، وكان هدفه كما يقول هو نفسه عن دراسته: «وكل ما تطمح إليه هذه الدراسة هو أن تلقي ضوءاً آخر على الشعار الصعب أعرف عدوك»، بقصد رصد الآخر ومعرفته، ثم الاستعداد على أرضية معرفية لمقاومته. يقول محمود درويش في مقدمة المجلد الرابع للأعمال الكاملة لغسان كنفاني: «في الوقت الذي كان يكشف فيه غسان كنفاني غطاء السر عما يكتبه كتّاب الأرض المحتلة العرب، كان يدرس نقيض هذه الكتابة وإحدى مواد محاوراتها: الكتابة الصهيونية، ودورها في تشكيل الوعي والكيان الصهيونيين. وبكلمات أخرى كان يدرس فاعلية الكتابة لدى العدو، فقدم بذلك أول دراسة عربية عن واحد من أخطر الموضوعات الصهيونية».
لا يمكن الإلمام بكل ما أراد كنفاني قوله في هذه الدراسة هنا، ولكنه خرج بخلاصات هامة، منها أن المقاومة ستتيح للشعراء أن ينضجوا بسرعة، وقدم أمثلة أثبتتها الحياة لاحقاً عن محمود درويش توفيق زياد وغيرهم.
أبطال ما بعد أوسلو
بالرجوع إلى الفكرة الخيال السابقة، ماذا لو أن غسان كنفاني مازال حياً؟ بالتأكيد ستجعله الوقائع والأحداث التي اكتسحت العالم أكثر نضجاً. وأكثر من ذلك سيكون سعيداً لما آل إليه أبداع هذا الشعب العنيد المتشبّث بحقّه، وبأبطال المقاومة الذين أفرزتهم المرحلة، ونضجوا بسرعة كما كان يتوقع تحت ضغط الظروف، وصار نضالهم بوتقة صهر ملتهبة تركزت فيها كل التقاليد والإرث النضالي لشعب لا يستكين، وجيل جديد ولد بعد اتفاق أوسلو ولا يعترف به، ويطمح أن يكون جيل التحرير في إطار الوضع الجديد الذي يتخلق في العالم. يؤكد أحد هؤلاء الأبطال الشباب بجملة نشرها في صفحته على «فيسبوك» قبل استشهاده، «لم يرشدنا أحد إلى الطريق، وإنما تعلّمنا كل شيء من أخطائنا» ضرورة تبديد غيوم التشاؤم الكثيفة والداكنة التي تثقل كاهل أقدر المناضلين وأكثرهم مسؤولية، لأن نتائجها تودي بصاحبها إلى السلبية السياسية والشك بالمستقبل.
لا بأس أن نُخطئ، ولكننا نتعلم من أخطائنا. وربما سيكمل كنفاني النصيحة بأننا يجب أن نلاحظ وندرس كل ما فعلناه حتى الآن ونتعلم منه ونواصل، لأننا دخلنا حالة الضرورة، الضرورة البسيطة والقصوى في آن معاً التي تتمثل في معضلة الحياة والموت.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1123