من مراسلات ماركس وإنجلس حول العرب والإسلام واليهود
خلال زيارة لماركس إلى إنجلس في مانشستر بين 30 نيسان و19 أيار 1853 دار بينهما حديثٌ بشأن تاريخ الشرق وقبائله وأديانه. وبعد ذلك بأيّام، اطّلع إنجلس على كتاب القسّ تشارلز فورستر «الجغرافيا التاريخية لشبه الجزيرة العربية. أو الأدلة الأبوية للدِّين المُوحَى: مذكّرات، وملحق يحتوي على ترجمات مع أبجدية ومسرد للنقوش الحِميَريّة المكتَشفة حديثاً في حضرموت» (لندن 1844). فأرسل إنجلس إلى ماركس رسالة كتب فيها: «من الواضح تماماً بالنسبة لي الآن أنّ ما يسمّى لدى اليهود الكتاب المقدَّس ليس أكثر من تسجيل للتقاليد الدينية والعشائرية العربية القديمة، المعدَّلة بفعل الانفصال الباكر لليهود عن جيرانهم الأقرباء بالنسب العشائريّ ولكن الرّحّل». وأجابه ماركس في رسالة بعد أيام: «فيما يتعلّق بالعبرانيّين والعرب، وجدتُ رسالتك مثيرة للاهتمام لأقصى حدّ...»، ويتبادلان ملاحظات مهمّة حول الموضوع، نوردها فيما يلي بحسب الرسالتَين المنشورتَين ضمن المجلد 39 من أعمالهما المجمَّعة (الطبعة الإنكليزية، موسكو 1983).
إنجلس لماركس (28 أيار 1853)
بالأمس، قرأتُ الكتاب بشأن الرُّقُم العربية الذي كنتُ قد أخبرتك عنه. إنه ليس بلا فائدة ومتعة، على الرغم من الحضور الدائم البغيض لصاحب التبريرات الكهنوتية والتوراتية الذي لا يكفّ عن الإطلال برأسه من بين صفحاته. وأعظم انتصاراته كان أن يعلن ارتكاب غيبون بعض الأخطاء في مجال الجغرافية القديمة، والتي استنتج منها أيضاً أنّ لاهوت غيبون كان بائساً. [إدوارد غيبون مؤرّخ إنكليزي من القرن 18 ومؤلّف كتاب «تاريخ انحدار وسقوط الإمبراطورية الرومانية» - المعرِّب]. إنه [الكتاب] يدعى «الجغرافيا التاريخية لشبه الجزيرة العربية» لمؤلِّفه القسّ تشارلز فورستر. وفيما يلي أفضل النقاط التي تظهر منه:
1. سلالة النَّسب المفترضة لنوح وإبراهيم وإلخ... والموجودة في سفر التكوين هي تعدادٌ دقيق إلى حد ما للقبائل البدويّة لذلك الزمان، تبعاً لدرجة علاقاتها المرتبطة باللّهجات، وما إلى ذلك. وكما نعلم جميعاً، فإنّ القبائل البدويّة لا تزال حتى اليوم تطلق على نفسها ألقاباً مثل بني صالد، بني يوسف، إلخ. أيْ أبناء فلان وفلان. وهذه التسمية التي تعود بأصولها إلى أسلوب الحياة الأبويّة الباكرة، تقود في نهاية المطاف إلى هذا النمط من النّسب... وبيَّنَ أحدَثُ الرحّالة أنّ معظم الأسماء القديمة لا تزال موجودة، ولو في لهجةٍ معدَّلة، ولكن يَظهر من ذلك بأنّ اليهود أنفسهم لم يكونوا سوى قبيلة بدويّة صغيرة مثل غيرها، والتي انخرطت في نزاع مع البدو الآخَرين بفعل شروط محلّية وزراعية وإلخ.
2. فيما يتعلّق بالغزو العربي الكبير، لعلّك تتذكّر نقاشنا عندما استنتجنا بأنّ البدو، كما المغول، شنّوا غزوات دوريّة، وأنّ إمبراطوريّات الآشوريّين والبابليّين قد تأسست بوساطة قبائل بدوية على البقعة نفسها بالضبط التي تأسست عليها الخلافة في بغداد لاحقاً. ما زال مؤسّسو الإمبراطورية البابلية، الكلدانيون، موجودين تحت اسم «بني خالد»، وفي المحلّة نفسها. إنّ التشييد السريع لمدنٍ كبيرة، مثل نينوى وبابل، قد حدث بالطريقة نفسها تماماً التي شيّدت بها في الهند قبل 300 عامٍ فقط مدنٌ ضخمة مماثلة؛ آغرا، دلهي، لاهور، موتان، بوساطة غزوات الأفغان والتتار. بهذه الطريقة يفقد الغزو المحمّدي كثيراً من طابعه المتميّز.
3. في جنوب-غرب، حيث استقرّ العرب، يبدو أنّهم كانوا شعباً متحضّراً مثل المصريّين والآشوريّين، إلخ، كما يتبيّن من عمرانهم. وهذا ما يفسّر أيضاً كثيراً من الأمور بشأن الغزو المحمّدي. وبقدر ما يتعلّق الأمر بالتزوير الدينيّ، فإنّ التدوينات القديمة في الجنوب - والتي ما يزال يهيمن عليها مذهب وحدانية الله في التقليد القومي العربي (كما لدى الهنود الأمريكيين)، وهو تقليدٌ لا يشكّل العبرانيّون سوى جزءٍ صغيرٍ منه - يبدو أنها تشير إلى أنّ الثورة الدينية المحمّدية، مثل كلّ حركة دينية، كانت شكلياً ردّة فعل (رَجعَةً)؛ تسعى إلى العودة إلى ما كان قديماً وبسيطاً.
من الواضح تماماً بالنسبة لي الآن أنّ ما يسمّى لدى اليهود «الكتاب المقدَّس» ليس أكثر من تسجيل للتقاليد الدينية والعشائرية العربية القديمة، المعدَّلة بفعل الانفصال الباكر لليهود عن جيرانهم الأقرباء بالنسب العشائريّ ولكن الرّحّل. إنّ واقع كون فلسطين غير محاطة على الجانب العربيّ سوى بالصحراء، أيْ بأرض البدو، يفسّر تطوّرها المنفصل. ولكنّ التدوينات العربية القديمة والتقاليد والقرآن، وكذلك السهولة التي يمكن بها الآن حلّ خيوط جميع سلالات النَّسب، وإلخ... تُبيّن أنّ المحتوى الأساسيّ كان عربيّاً أو بالأحرى ساميّاً بشكل عام، كما في حالة «الإيدا» والقصّة الملحمية الجرمانية لدينا. [الإيدا: مجموعة من القصص البطولية والأسطورية الاسكندنافية تعود إلى القرن 13 الميلادي].
ماركس لإنجلس (2 حزيران 1853)
فيما يتعلّق بالعبرانيّين والعرب، وجدتُ رسالتك مثيرة للاهتمام لأقصى حدّ. يمكن بالمناسبة تبيان أنّه: 1. في حالة جميع القبائل الشرقية، كانت هناك منذ فجر التاريخ علاقة عامة بين استقرار قسمٍ واستمرار ترحال أقسامٍ أخرى. 2. في زمن محمّد، خضع طريق التجارة من أوروبا إلى آسيا إلى تعديل كبير، وباتت مدن شبه الجزيرة العربية، التي حظيت سابقاً بحصة كبيرة من التجارة مع الهند وما إلى ذلك، تعاني من انحدارٍ تجاريّ - وهو واقعٌ ساهم بالعملية من كلّ بدّ. 3. بقدر ما يتعلق الأمر بالدِّين، يمكن ردّ القضية إلى سؤال عام وبالتالي قابل للإجابة بسهولة: لماذا يظهر تاريخ الشرق كتاريخ للأديان؟
بخصوص موضوع نموّ مدن الشرق، ربّما لا يمكن للمرء أن يجد ما هو أكثر ذكاءً وشمولاً وإدهاشاً من كتاب «رحلات تحتوي على وصف ولايات المغوليّ العظيم» لفرانسوا بيرنييه الشَّيخ (طبيب أورنكزيب لمدة 9 سنوات). [هذا الأخير هو السلطان أبو المظفَّر محيي الدين محمد أورنك زيب عالم كير، آخر «سلاطين مغول الهند العِظام» خلال القرن 17 وتوفّي عام 1707م ـ المعرِّب].
وبالإضافة إلى ذلك قدّم وصفاً جيّداً جدّاً للتنظيم العسكري والأسلوب الذي تُحطم به هذه الجيوشُ نفسَها، وما إلى ذلك. وبشأن هذين الأمرين يلاحِظ من بين أمور أخرى:
«يتكون الجسم الرئيسي من سلاح الفرسان، والمشاة ليسوا بأعداد كبيرة كما يفترض عادة، ما لم يتم أخذ كل من يخدمون الناس وقَوم البازار أو السوق الذين يتبعون الجيش كمحاربين حقيقيين؛ لأنه إذا كان الأمر كذلك، فسيكون هناك على ما أعتقد سبب وجيه لوضع ما بين مئتي ألف وثلاثمائة ألف رجل من قوة ذلك الجيش وحده التي تكون مع الملك، وأحياناً أكثر من ذلك، مثلاً عندما يُعرَف بأنه سيتغيّب طويلاً عن العاصمة؛ الأمر الذي لا يبدو في الواقع مفاجئاً كثيراً لأيّ شخص على دراية بكل المعيقات الغريبة للخيام والمطبخ والملابس والأثاث وحتى النساء في كثير من الأحيان ، وبالتالي الفيلة والإبل والثيران والخيول والحمّالون والعلّافون والخيّاطون، والتّجار من جميع الأنواع والخدم الذين يسيرون في أعقاب هذه الجيوش، ولا لأيّ شخص على دراية بالظروف والحُكم الخاص بالبلد، أي إنّ الملك هو المالك الوحيد والفريد لجميع أراضي المملكة، ما يقتضي بالضرورة أنّ تركّز كل عاصمة، مثل دلهي أو آغرا، بشكل كامل تقريباً على الميليشيات، وبالتالي فهي ملزمة باتباع الملك كلما ذهب في حملة لفترة من الوقت، فإنّ هذه المدن ليست قادرة، وهي بالواقع كذلك، أن تكون باريساً بأيّ شكل من الأشكال، لكن كونها في الحقيقة ليست سوى معسكرٍ للجيش فإنها أفضل إلى حد ما وأرحب سعة من حيث الموقع مما لو كانت في بلد مفتوح».
وفي إشارة إلى زحف المغول الكبير في كشمير، بجيش قوامه 400 ألف جندي، كتب بيرنييه:
«كيفَ وعَلامَ يمكن أنْ يعتاشَ جيشٌ في الميدان، أو ملتقى كبير من البشر والحيوانات، هو أمرٌ يصعب تصوّره. تحقيقاً لهذه الغاية، لا يسع المرء إلا أن يظن، وهذا هو الحال بالفعل، إنّ الهنود رصينون وبسيطون للغاية فيما يأكلون، وأنّ هذا العدد الكبير من الفرسان، لا يأكل عُشراً، ولا حتى واحداً من عشرين، من اللحوم أثناء المسير، بشرط أن يكون لديهم «الخيشري»، أو خبيصة الأرز والخضروات الأخرى، حيث يسكبون الزبدة البنّية عند طهيها، وهم قانعون. كما يجب أن نعلم أنّ الإبل تتحمّل بشدة العمل والجوع والعطش، وتعيش على القليل جداً وتأكل أي شيء، وبمجرد وصول الجيش إلى المخيم، يقودها سائقوها للرّعي في الريف حيث يتواجدون. فتأكل كل ما يأتي في طريقها. علاوة على ذلك، فإنّ التجار أنفسهم الذين يحتفظون بالبازارات في دلهي ملزمون بإبقائها في الميدان أيضاً، وكذلك التجار الصغار، وما إلى ذلك... أخيراً، فيما يتعلق بالأعلاف، يتجوّل كل هؤلاء الفقراء في كل اتجاه إلى القرى لشراء الشيء نفسه وكسب شيء هناك، وملاذهم الرئيسي والمعتاد هو تمشيط أجزاء كاملة من البلاد بنوع من مجرفة، وسحق وغسل الأعشاب الصغيرة التي تم تمشيطها، ونقلها إلى الجيش للبيع...».
يرى بيرنييه بحقّ أنّ جميع تمظهرات الشرق – يذكر تركيا وبلاد فارس وهندوستان – لها أساس مشترك، هو عدم وجود ملكيّة خاصّة للأرض. هذا هو المفتاح الحقيقي، حتى للسماوات الشرقيّة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1124