كَبُرت الطاحونة وأصبحت بلاداً!
شهدت سنوات الأزمة الأولى في سورية أحداثاً كثيفة ومتسارعة وصادمة لشرائح واسعة من المجتمع السوري، وحتى عام 2018، كانت أغلب هذه الأحداث عسكريّة الطابع وتصعيديّة إلى حدّ بعيد، لكنّ ما بعد ذلك فقد تربّعت الكارثة الاقتصادية على عرش المشهد، وبين هذه وتلك دارت طاحونة الأزمات دون مستقرٍ لها، وكان لذلك تجليّاته على نَفَس السوريين الذي تقلّب ما بين التفاؤل حيناً، والتشاؤم حيناً أخر، وعلى سلوكهم الذي انتقل من حال إلى حال أيضاً.
«الطاحونة تلتهم الجميع»
في البداية، دارت طاحونة الأحداث بشكل مرعب وشديد السرعة إن صح التوصيف، هذا الدوران الكثيف والمتسارع ولّد -وكما يقال بلغة الفيزياء- قوى جذبٍ مركزية كبيرة التهمت كثيراً من الناس، وبشكلٍ خاص الشريحة العمرية التي دخلت العشرينات من عمرها مع بداية الأزمة، والتي تجاوزت الآن عامها الثلاثين. دخلت هذه الشريحة معترك الأحداث الجارية، وأصبحت تطوراتها اليوميّة محور حياتها على جميع المستويات الاقتصاديّة - الاجتماعيّة والسياسيّة، والعسكريّة التي كانت ضاربة بشدّة في البداية، وانعكست التجاذبات الوليدة من الأزمة بأوضح تعبيراتها لدى هذه الشريحة.
وعلى الرغم من التجاذبات والصراعات الحادّة الناشئة بين أفراد هذه الشريحة، كان الانخراط بالحركة السياسيّة الناشئة إيجابياً ومثيراً للتفاؤل الشديد وسط دخان الحرب الكثيف وضحاياها المؤلمة وجراحها النازفة. ومثّل هذا الانخراط العارم والحماس الشديد انقلاباً جذريّاً على حالة السكون التي عانت منها البلاد لعقودٍ طويلة؛ عقودٌ طغى فيها إيقاع الحياة الروتينية المملة والباردة بفعل غياب الممارسة السياسيّة، بل وحتى الحديث السياسيّ.
«الطاحونة تخلع أحمالها»
«الطامّة الكبرى» التي حدثت، هي أنه حين تباطأت الأحداث وخفّ الدوران وتكرّست حالة الجمود السياسي وامتدّت؛ حينها رَجَحَتْ كفة قوى الطرد المركزيّ، وفعلت فعلها، وبدأت تخلع الطاحونة عنها أحمالها التي جذبتها بقوّة بادئ الأمر. الحديث يدور هنا عن المرحلة التي تلت التصعيد العسكري، والتي شيئاً فشيئاً بدأت الأزمة الاقتصادية تشتدّ فيها أكثر فأكثر دون حدوث نقلات نوعيّة في الحل السياسي. هنا بدأ يلحظ المهتم بالشأن العام خطوة وربما خطوتين إلى الوراء من قبل من أقبلوا بصورة بالغة على الاهتمام والمشاركة وإبداء الرأي والنقاش حول كلّ ما يدور في طاحونة الأحداث هذه.
مضتْ السنون واستمر الأمر على هذا النحو إلى أن وصلت الحالة بهؤلاء إلى تلك الدرجة التي أصبحوا يتأمّلون عندها مجرى الأحداث عن بعد، هذا إذا كان للتأمّل نصيب في حياتهم طبعاً؛ الحياة التي سرعان ما تحوّلت إلى لهاثٍ وراء لقمة العيش ومساحةٍ صغيرة للشعور بالطمأنينة.
«انتظار غودو»
بدأ يسعى هؤلاء الشباب لانتزاع «مسافة أمان» بالتزامن مع محاولات «وضع الملح على الجرح» رغبة بترميمه وعلاجه، مع الصمت وانتظار «غودو - الحل» إلى حين. يطغى على الأحاديث في هذه الأيام عبارات من قبيل: «الطاسة ضايعة.. ما عاد فهمنا شي.. خلونا ننتظر ونشوف شو رح يصير.. الله يفرّج أحسن شي»، لعلّ شيئاً من الدوّار الذي أصاب الرؤوس المثقلة بالمتاعب والهموم قد ساد وجعل «الطاسة ضايعة» بلا مستقرٍّ لها.. ويبدو هذا منطقياً وطبيعيّاً عند أخذ الدوران الشديد لطاحونة الأحداث والأزمات بعين الاعتبار.
من الشائع القول بين أفراد هذه الشريحة، بأنها لن تقول أبداً: «ألا ليت الشباب يعود يوماً». دفعت هذه الشريحة العمرية الأثمان الأكبر في الحقيقة، ومازالت تدفع -مع بقية الشرائح بطبيعة الحال- الثمن حتى الآن.. ذهب ربيع عمرها سدىً، والأمل في أن تعوضها قادمات الأيام بشيءٍ ممّا فقدته...
وفق ما يلاحظ كاتب هذه السطور، فإنه وباستثناء الجيل الجديد الذي يضع أقدامه على عتبة العشرينات اليوم -والذي نجا من حالة الانكفاء التي يتم الحديث عنها- فإن الحال السائد في سورية، ولدى أبناء الشريحة العمرية التي نتناولها هنا بشكل خاص؛ هو الصمت والانتظار.
يحاول أبناء هذه الشريحة أن يخفّفوا عن أنفسهم إرهاق دوران الطاحونة، وذلك من خلال وضع أنفسهم خارج حَجرها، إمّا عبر السفر خارج حدود البلاد، أو الابتعاد عن ضجيجها في الداخل.. وهي مرهقة الآن لا شكّ، لكنها مرهقة لشدّة ما تحمل ربما؛ فهي تحمل ما هو أهم من كل التفاصيل؛ تحمل الآمال الكبيرة التي نسجتها العقول الحالمة بصورةٍ سورياليّة خاطفة، والتي نُسِجَت على هذا النحو لشدّة اللهفة، وللتوق الكبير للغد الأجمل وللتغيير.
لكن على الرغم من ذلك، فقد بدأ يتضّح لكثيرين الآن، وبصورة جليّة، أن «غودو» لن يأتي من تلقاء نفسه، وأن مشاعر القلق التي تبعثها وتضخّها هذه الحالة الانتظاريّة في النفس مأساوية ولا نهاية لها. ولهذا فإن الصمت والانكفاء الماثل الآن لن يكون أبديّاً؛ أي إنه من الصحيح أن معظم الناس قد أخذوا في المرحلة الثانية من الأزمة خطوة وربما خطوتين إلى الوراء، لكن ما بعد ذلك لن يكون إلّا خطوات نحو الأمام باستخدام تعبير لينين وقبله تشيخوف.
«الأمان الوحيد»
السؤال الذي يطرح نفسه: هل حقاً وفعلاً الناس خارج حجر الطاحونة اليوم؟ كَبُرت الطاحونة وأصبحت بلاداً.. الحقيقة هي أن الجميع في قلب هذه الطاحونة، وقلب هذه «المعمعة»، وليست «مسافات أمان» الشخصية التي يحاول أن يتّخذها المرء إلّا مسافات مخادعة سقطت وتسقط شيئاً فشيئاً في اختبار الحياة.. الأمان الوحيد للجميع هو أن تنجو هذه البلاد وتقف على أقدامها مجدّداً، وأهم مقدّمات ذلك هو العودة إلى الفعل باتجاه المزيد من الوحدة والتنظيم في السير نحو تحقيق التغيير.. لا نجاة للبلاد وأهلها دون ذلك!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1117