«مئة فيلم» لإبراهيم العريس: السينما في وظيفتها الإنسانية
ضمن موسوعته الشاملة «تراث الإنسان»، خصّص الكاتب اللبناني مجلّده الأوّل للفن السابع. أنجز مرجعاً يوثّق كيفية تطوّر هذا الفن وأنماطه وأدواره، مرتكزاً على أساس المحور التاريخي.
منذ إعلان عزم إبراهيم العريس على إصدار موسوعة «تراث الإنسان»، انصبّ الاهتمام فوراً على الجزء الأول المتعلّق بتراث الناقد نفسه، أي «تاريخ السينما في مئة فيلم». ذلك يعود إلى أنه ابن السينما قبل أن يكون ابن الصحافة، وقد عمل في مهن سينمائية عدة وشارك في كتابة سيناريوات لأفلام مختلفة قبل أن يتفرّغ لكتابة مقالات نقدية وبحثية عن السينما.
يعرف العريس جيداً ما يريده من كتابه، أو ربما من موسوعته. الأمر واضح من خلال تقسيم الكتاب من الداخل وترتيبه، فهو لم يصُغ فصولاً مترابطة ومتكاملة على أساس السرد الأدبي أو الروائي، بل جعل كتابه أقرب إلى بحث أكاديمي مطعم بنكهة نقدية مخففة لا يمكن العريس التفلت منها. وكأنه يريد للكتاب أن يكون مرجعاً لكل الباحثين اللاحقين في السينما، أو ربما مدخلاً إلى تاريخ صناعة الفن السابع وتطوره من خلال أمثلة حية بعيداً عن التنظير.
هذا الأسلوب يمنح الكتاب سلاسة ملحوظة، تمكنه من الانتقال من حصرية اهتمام «السينيفيليين» (على غرار الكثير من مؤلفاته السينمائية السابقة)، إلى اهتمام العامة، وهذه نقطة إضافية تحسب له. لا يصنع العريس هنا كتاباً ليقرأ مرة ويبقى على الرفوف، بل يصنع مرجعاً يمكن الركون إليه مرة بعد مرة. رغم أن الكثير مما ورد في الكتاب لا ينشر للمرة الأولى، بل سبق أن رأيناه على صفحات جريدة «الحياة»، لكنه ارتأى إعادة وضعه في كتاب للإفادة منه ضمن سياقه البحثي الشامل.
ارتكز العريس في تقسيم مؤلّفه على أساس محور تاريخي، فجعل كل فصل فيلماً وربط كل فيلم بحقبته التاريخية والاجتماعية والسياسية. لهذا، لا يمكن اعتبار الأفلام التي اختارها العريس لائحة لأفضل مئة فيلم في تاريخ السينما. هي اختيارات لأعمال قد لا تكون جميعها ممتازة أو تحظى بإجماع النقاد، بل هي قادرة على تظهير كيفية تطور السينما وأنماطها وكيفية بلورة أدوارها أكانت تلك الأدوار تجارية كفيلم «تايتانيك» للمخرج الأميركي جيمس كاميرون، أو أيديولوجية كـ«ميتروبوليس» الألماني فريتز لانغ، أو لدورها في إحداث صدمة ثقافية أو التعبير عنها كـ«راشومون» للياباني أكيرا كوروساوا.
لذلك، يمكن فهم بعض الاختيارات الغريبة للأفلام. العريس لا يصنف بين جيد وأفضل أو بين ثوري أو تقليدي، بل يحاول وضع تلك الأفلام في إطار دورها الوظيفي العام، أي ضمن علاقة التراث الثقافي الإنساني بالتاريخ نفسه. لذا نراه يركز على الدور الاستشرافي للسينما، لا دورها المواكب للتطورات، وعلى وظيفتها التمهيدية لحركة التاريخ (ولا يمكن الادعاء أنها تأسيسية) التي تشكل جس نبض لمزاج الشعوب قبل التغيرات الكبرى. ولعل هذا ما قصده العريس في اختيار أفلام مثل «عيادة الدكتور كاليغاري» للمخرج الألماني روبرت فينه. عن كونه من أهم الأفلام الصامتة، يشكّل هذا الفيلم أحد الأعمال المتنبئة لظهور هتلر من خلال تقديم شخصية مجنونة عاد العالم ليراها واقعاً. ينطبق هذا الأمر أيضاً على شريط «الأم» للروسي فزيفولود بودوفكين الذي أسهم في «خدمة الوعي النضالي» الممهد للثورة البوليشفية. ولعل التركيز على الدور الوظيفي للأفلام ظلم جانبها الفني. وما اعتماد الكاتب على حصرية التركيز على المخرج والكاتب، سوى ظلم للعاملين الآخرين على بلورة تلك الإنجازات، سواء أكان لناحية الممثلين الذين انطبعوا في الذاكرة، أم الموسيقيين والمنتجين وغيرهم.
لم ينس الكاتب الأفلام التي شكّلت ظاهرة بحد ذاتها واستطاعت كسر الحاجز السميك بين الأفلام الثقافية أو المصنفة نخبوية، وبين الأفلام الجماهرية التي تلقى رواجاً شعبياً كثلاثية «العرّاب» لفرانسيس فورد كوبولا. ولم يستثنِ الأعمال التي أسست لأنماط سينمائية جديدة كتأسيس أفلام الخيال العلمي على يد المخرج ميلياس في فيلمه «رحلة إلى القمر».
إذاً، ضمن موسوعته «تراث الإنسان» (12 مجلداً)، التي يسعى من خلالها إلى توثيق الفنون العالمية، جاء المجلّد الأوّل عملاً جدياً يشكّل مدخلاً إلى تاريخ السينما. ومن شأن هذا أن يسهم في فهم التطور التاريخي للفن السابع الذي انطلق على أساس «اختراع تقني»، قبل أن يتطور ليغدو أحد أبرز تجليات التراث البشري في التاريخ أجمع.
المصدر: الأخبار