عن ولادة وعي شامل: الوجود الفني نموذجاً

عن ولادة وعي شامل: الوجود الفني نموذجاً

في السلسلة السابقة التي حاولت أن تطلّ على التوتر الحاصل بين البنية الفوقية والتحتية، والذي هو انعكاس للتفكك الذي تؤسس له أزمة المجتمع الرأسمالي، وصلنا إلى خلاصات عامة وهي أنّ جوانب البنية الفوقية والتي هي الوعي والثقافة والفن والعلم والحقوق والسياسة لم تعد قادرة على الإجابة عن تناقضات وحاجات تطور القاعدة المادية (التحتية) ودخلت منذ وقت ليس بقريب بأزمة، والتي تشتد مؤخراً على وقع اشتداد التناقض في القاعدة المادية، على قاعدة دمار العقل الإنساني نفسه. وكما قلنا سابقاً سنعالج في هذه المادة في بعض التفصيل ليس بالتحديد أزمة الفن المهيمن، بل الكوامن الغنيّة لهذا المستوى من الوجود الإجتماعي، أي الوجود الفني، واحتمالات تحوّله وتوسعه.

عن غنى المرحلة مجدداً

على الرغم من السواد والبؤس المهيمنَين على المشهد العام وعلى ملامح مجتمعاتنا تحديداً، التي صار يكسوها ويطغى عليها الرمادي المُغْبرّ، فإن غنى المرحلة كبير وعظيم، للسبب ذاته الذي يؤسس للسواد والبؤس. وهذا الغنى يتخطى الجديد السياسي والتوازنات الاقتصادية والعسكرية في العالم، وتراجع هيمنة قوى المركز الغربي بالتحديد. إنه يشير إلى تحوّلات كامنة تنبئ بشكل مجتمع المستقبل الذي يتشكل في هذه العملية التاريخية المعقدة والطويلة. ومسبقاً يمكن القول بأن المجتمع يشهد توسعاً لحضور شكل الوعي الفنّي فيه، وهو بذلك يعيد مرحلة تاريخية كان فيها الفن غير منفصل إلى حد كبير عن الممارسة «اليومية»، ونقصد بذلك المجتمعات الأولية التي لم تشهد بعد انقساماً طبقياً وانقساماً في تقسيم العمل، وبالتالي انقساماً بين فنان وغير فنان. أي ذلك المجتمع الذي يكون فيه الإنسان جامعاً لمستويات مختلفة من العلاقة مع الواقع وبالتالي جامعاً لأشكالٍ مختلفة من الوعي الإجتماعي (العلمي، الفني، الحقوقي، الديني...). ألم يكن إنسان القبيلة المشاعية على هذا المستوى من الوجود الشامل ولو بشكله الأوّلي المبكّر؟ ألم يكن فلاسفة العصر العبودي على هذا المستوى «الشمولي» من الممارسة فكانوا علماء وفنانين وفلاسفة وحقوقيين وسياسيين إلى هذا الحد أو ذاك! وهذا نفسه موجود في نماذج فناني-علماء-فلاسفة عصر النهضة، وهو وبكل وضوح نراه لاحقاً لدى كلاسيكيي الفكر الثوري الماركسي. وإذا اعتمدنا هذا التطور التاريخي نرى بكل بساطة بأن حضور الإنسان الشامل كان يضيق مع كل انتقال إلى تشكيلة جديدة. من حالة شبه عامة لدى إنسان المشاعة، إلى نخبة ثورية في عصر نضوج الرأسمالية. فمثلاً نجد ماركس الشاعر والفيلسوف وعالم الاقتصاد والاجتماع والتاريخي والرياضي، الذي يمكن تلمس هذا المستوى من الوجود الشامل في نصّه المكتوب.

الإبداع كقاعدة للعقل في شكليه «اليومي والمميز» (علوم وفن)

قلنا في مكان سابق بأن قاعدة التوسّع المادية هذه تكمن في حقيقة أن العقل بشكل عام يعمل على أساس الإبداع والابتكار. والإبداع هذا هو بكل بساطة في تحديد جوهر الظواهر وعقلنتها. أي القدرة على تجريد الواقع ومن ثم تعميمه كقاعدة للعلم والفن على حد اعتبار الباحثين على مختلف منطلقاتهم النظرية والمنهجية. وهذا السبب يعتبر العديد من الباحثين في قضية الإبداع اليوم بأن الفرق بين أشكال الوعي ليس إلا اختلافاً بالدرجة وليس بالطبيعة. وإذا ثبتنا هذه القاعدة، يمكن القول إن وجوداً اجتماعياً غير منقسم على نفسه في شروط تقسيم عالٍ للعمل، يفرض ظرفاً موضوعياً لعدم انقسام الوعي على قاعدة الوجود الشامل غير المنقسم للفرد حامل الوعي، وبالتالي تتداخل هنا الأشكال المعروفة للوعي، أي يتداخل الوعي الإبداعي «العادي-اليومي» (يسمى في ميدان بحوث الإبداع بالـC الصغيرة-small C، عملاً بأول حرف من كلمة أبداع بالإنكليزية: Creativity) مع الوعي «الإبداعي الخاص» (والذي تسمى بالـC الكبيرة-Big C). إذاً، الفرق بين شكلي الإبداع اليومي (العقل في عمله المعتاد) والخاص (فن، علم) هو في الدرجة فقط.

التناقض كقاعدة للإبداع (التجريد والتعميم) وتوسعه

النقطة الضرورية لتتبع تطور الوجود الفني (كموضوع لهذه المادة) يجب أن تأخذ بعين الإعتبار قاعدة الإبداع العامة، أي قاعدة تشكل الوعي وانعكاس الواقع المتمثلة بالتناقض. فالتناقض الموضوعي في الظواهر (الاجتماعية وفي الفكر على حد سواء)، وتحديده والقبض عليه، هو المادة التي تشكل التجريد، ومن ثم التعميم. وهنا نقطة أساسية، ففي هذه المرحلة التاريخية فإن التناقضات الموضوعية وصلت حداً من العمق والالتقاء (الترابط) لسبب أساس هو أن تطور البنية الرأسماليّة رابط الظواهر وعلاقتها على مستوى العالم، وبالتالي ماسك العالم ممارسياّ، مما يعني أنه فرض قاعدة ولادة وعي عالمي للأفراد، هذا أولاً. وعمق التناقضات، أي وضع البشرية على حافة الانقراض يفرض تمركز التناقضات في تناقض مركزي هو من حيث الجوهر الأكثر عمومية ويفرض طرح الأسئلة التاريخية على البشرية في وجودها اليومي. هذا الاندماج للتناقضات وحِدّتها في آن على مستوى الوجود اليومي للأفراد، يضع القاعدة المادية لولادة وعي شامل بالضرورة، الذي هو إطار مختلف أشكال العلاقة بالواقع. فالمجتمع وبعد أن توسع فيه حضور الجانب الذهني خلال العقود الماضية، جاهز لكي يعكس هذا الوجود الشامل. فهناك فئات واسعة من الناس توسع لديها حضور الجانب الذهني والفكري على ضوء التنازل الذي قامت به الرأسمالية في منتصف القرن الماضي واتجهت نحو النمط الليبرالي للثقافة وتوسع مشاركة الفرد. إذاً، كل فرد اليوم يعيش علاقة شاملة مع الواقع إلى هذا الحد أو ذاك، وهو قادر بالتالي على أن تتشكل لديه أشكال الوعي الإبداعي التي تسمى وعياً فنياً أو علمياً بمعزل عن شكل ظهورها اليوم والمادة التي تعبر فيها عن نفسها، أي الاتجاه الفني الذي تسلكه واللبوس الذي تظهر فيه للعلن.

بعض أمثلة توسع الوعي الإبداعي «الخاص»

يمكن تلمّس هذا التوسع في الوعي الإبداعي من خلال منصات «التواصل». فكل منصة تسمح بالتعبير عن شكل ما من الفن (والعلم أيضاً، والذي يجب أن تتم معالجته في مواد مستقلة)، تصويراً، شعراً، تمثيلاً، إخراجاً، طبخاً... هذه المنصات هي الدليل المباشر على توسع قاعدة العقل الإبداعي الخاص. ولكن على الرغم من هذه الحقيقة الجلية، هناك تطور نوعي يجب الالتفات إليه، والذي يجب البحث عنه خارج هذه المنصات بالضرورة، مع أنه يتسرب إليها ويظهر عليها، ألا وهو «نمط الحياة الفني». فتتبع ممارسة الأفراد اليوم في حياتهم اليومية يرفع نسبة الجانب الفني من الممارسة إلى الحد الذي تصبح معه هذه الممارسة لها الشكل الفني. وتختلف هذه النسب من مجتمع إلى آخر ومن فئة اجتماعية إلى أخرى، ولكنها ملمح عام لم يعد يمكن نكران حصوله. بل تكمن المهمة في تتبع تطوره ومستقبل هذا التطور، وتحويله إلى مادة برنامجية يجب على أساسها بناء المجتمع والسماح لهذا الكامن بالتطور وليس كبحه. أي تفجير الطاقة الإجتماعية إلى مداها المتاح تاريخياً. وهذا التوسع تعالجه الأكاديميا النفسية-الصحية بعكس ما هو في حقيقته «الثورية». فيعتبر بعض ممثلي التيار النفسي المهيمن أن الهستيريا آخذة في التوسع اليوم، ومعروف «عارض» الهستيريا في التحليل النفسي بشكل أساس كتعبير عن أزمة ما إلى الحد الذي اعتبر معه غالب العلماء والفنانين تاريخياً بأنهم «هستيريون». وهذا المظهر «المسرحي» يمكن تلمسه اليوم في كل بقعة من المجتمع، وهو ما نلاحظه في الملبس وطريقة السير (حد الرقص) والكلام والتعبير والتزيّن... في هذا الصدد يمكن مراجعة رواية ألبرتو مورافيا «رسائل من الصحراء» والتي يطلّ في قسم منها على الطبيعة الفنية للمجتمعات الإفريقية التي ما زالت تحافظ إلى هذا الحد أو ذات على «أحافير» فنية من المجتمع المشاعي السابق.

عدم تلاؤم الفن المهيمن مع الوظيفة التاريخية

وهكذا تنغلق الدائرة التي انطلقنا منها، ونعتذر عن هذا المسار المركب (والمُربِك ربّما حتى لنا)! هذا المضمون «الفني» يعاني أزمة «شكله». أي الشكل المهيمن الذي تفرضه تيارات النظام الأسود الإمبريالي في عصر أزمته كالعدمية وغيرها. أي يعاني من التوتر بين البنية الفوقية والتحتية، بين الشكل الفني وبين الجوهر التناقضي الاجتماعي. ولهذا فإن هناك مهامَّ كبيرة تقع على هذا المستوى ولكنها لن تتم بشكل إرادي أو أوامري، بل ستجد لها القوى الاجتماعية حلّاً في سياق ممارستها، ولكن لن يتم حلها دون مشروع اجتماعي سياسي عام ترفعه قوى سياسية تشكل بوصلة ولادة الشكل الفني الملائم مع الحاجات التاريخية لتحقيق الذات، التي هي اكتمال حلقة جمال ماركس عن الوجود الشامل الجمالي للإنسان في سعيه إلى تحقيق ذاته. نحن فعلاً أمام عصر تحقيق الذات بعد موت فردية الليبرالية.
هذه الجرعة الفنية هي تأكيد كبير على دور البنية الفوقية التي حددتها الكلاسيكيات القادرة على دفع تطور البنية التحتية والسير أمامها. وهذه المادة تمثل الشيء القليل مما يمكن قوله عن هذا الواقع الغني. وفي المواد اللاحقة سنحاول قدر المستطاع تلمّس وتنبؤ ليس فقط ظروف هذا التوسع للوجود الفني، بل التنبؤ بولادة وعي شامل، يعيد الوجود الشامل، ولكن على مستوى أرقى وبنفس أعلى، عاشته البشرية في العصور التاريخية الماضية لمشاعيتها.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1107
آخر تعديل على الثلاثاء, 31 كانون2/يناير 2023 08:36